8 دقائق قراءة

“حرب المياه” مستمرة: ضعف الاستجابة يدفع سكان الحسكة إلى “التقنين”

في مدينة الحسكة وضواحيها، دخلت المياه في سياسة "التقنين"، رسمياً عبر ضخ المياه لساعات وبكميات محدودة، وشعبياً على صعيد الاستخدام الشخصي والمنزلي، بسبب استمرار "حرب المياه" التي تشنها أنقرة والفصائل المدعومة منها.


الحسكة- في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، أطلقت تركيا عملية عسكرية في شمال شرق سوريا، مستهدفة نقاطاً عسكرية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومنشآت نفطية، ومراكز خدمات مدنية تتبع لإدارتها الذاتية، رداً على هجوم أنقرة، الذي استهدف مديرية الأمن، من ذات اليوم.

تركز القصف التركي على البنى التحتية، بما في ذلك محطات المياه والكهرباء، في الوقت التي تعاني مدينة الحسكة وضواحيها من شح في المياه، نظراً لعدم وجود مصادر مائية بديلة عن محطة مياه علوك، التي تتحكم بها فصائل الجيش الوطني المدعومة من تركيا في مدينة رأس العين، منذ سيطرتها على المنطقة في أعقاب عملية “نبع السلام”، التي أطلقتها أنقرة ضد “قسد” في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وانتهت بسيطرة الفصائل المدعومة منها على مدينتي رأس العين بمحافظة الحسكة وتل أبيض بمحافظة الرقة.

وفي الوقت الذي تحتاج مدينة الحسكة لنحو 150 ألف متر مكعب يومياً، تصل نسبة الاستجرار من محطة علوك إلى نحو ألف متر مكعب فقط، بحسب تصريح الرئيس المشترك للمديرية العامة للمياه في مقاطعة الحسكة، عيسى يونس، في تموز/ يوليو الماضي، معلناً المدينة منطقة منكوبة.

اقتصر مصطلح “التقنين” في سوريا، قبل الثورة السورية، التي اندلعت في ربيع 2011، وبعدها على الكهرباء، لكن في مدينة الحسكة وضواحيها، دخلت المياه في سياسة “التقنين”، رسمياً عبر ضخ المياه لساعات وبكميات محدودة، وشعبياً على صعيد الاستخدام الشخصي والمنزلي.

ترك سيامند محمد، 37 عاماً، مدينة رأس العين أثناء عملية “نبع السلام” “هرباً من حرب الرصاص، لنجد أنفسنا أمام حرب المياه”، كما قال لـ”سوريا على طول” من مكان إقامته الحالي في مدينة الحسكة.

“كان فصل الصيف قاسياً جداً، في ظل ارتفاع درجات الحرارة، التي تجاوزت 45 درجة، ورغم حاجتنا للمياه كنا نعاني من تأمينها للشرب وللاستخدامات الأخرى”، بحسب محمد، الذي يعمل معلماً في إحدى المدارس التابعة للإدارة الذاتية بمدينة الحسكة، متسائلاً باستنكار: “ما هذه الحياة التي نعيشها؟”.

تتأثر مدينة الحسكة وبلدة تل تمر ونحو 54 قرية بمياه “علوك”، وهي مصدر مياه الشرب الوحيد، التي انقطعت أكثر من 36 مرة منذ عملية “نبع السلام”، وتحتاج هذه المناطق من 82 ألف إلى مئة ألف متر مكعب يومياً، يستفيد منها نحو مليون نسمة، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من شكوى لمنظمات محلية مقدمة للأمم المتحدة، في أيلول/ سبتمبر الماضي. أزمة المياه في الحسكة دفعت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا إلى اعتبار مدينة الحسكة “منكوبة”.

في أوقات انقطاع مياه محطة علوك، يعتمد سيامند محمد على صهاريج المياه، لتعبئة خزانات منزله، وهذا “مكلف بالنسبة لي، خاصة في فصل الصيف، لأنني كنت أحتاج إلى تعبئة الخزانات، سعة 10 براميل، ثلاث مرات أسبوعياً”، ويتراوح سعر البرميل الواحد من 10 إلى 15 ألف ليرة سورية (0.74 إلى 1.10 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف في السوق الموازية، البالغ 13550 ليرة للدولار الواحد)، بالإضافة إلى “طرود المياه المعدنية، ويبلغ سعر الطرد 2 دولار تقريباً”، على حد قوله.

من جهتها، اعتبرت شيماء، 43 عاماً، وهي معلمة بإحدى المدارس التابعة للحكومة السورية في مدينة الحسكة، أن استحمام أبنائها “مرتين أسبوعياً في ذروة فصل الصيف كافٍ في ظل أزمة المياه”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، واصفة وضع المياه بـ”الكارثي”، كون “نصيب الحي الذي أقطن فيه يوم واحد أسبوعياً، وأحياناً يمر هذا اليوم من دون مياه إذا كانت مقطوعة من المصدر في علوك”.

وأضافت السيدة: “من أجل ترشيد استهلاك المياه، صرنا نضع خطة تقنين للاستحمام ولاستخدام المياه”، مشيرة إلى أنها في كثير من الأحيان تضر إلى “تعبئة الخزانات من الصهاريج بمبلغ لا يقل عن 30 ألف ليرة [2.20 دولاراً] لكل مرة”.

وعدا عن أن سعر البرميل يختلف من بائع لآخر، وأحياناً من وقت لآخر، فإن المشكلة تكمن في “عدم معرفة مصدر مياه الصهاريج، التي لا يجري تعقيمها من صاحب الصهريج، وبالتالي فهي مياه غير صالحة للشرب”، بحسب شيماء.

قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها، الذي نشر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022: “لم تضمن السلطات التركية تدفقاً كافياً للمياه من المنبع نحو الجزء السوري من نهر الفرات، ولا إمدادات مستمرة للمياه من محطة علوك، وهي مصدر حيوي للمياه”، متهمة أنقرة بأنها “تفاقم أزمة المياه الحادة، التي يعتقد أنها أدت إلى انتشار وباء الكوليرا القاتل في جميع أنحاء سوريا وانتقاله إلى البلدان المجاورة”.

تأكيداً على ذلك، قال مدير مديرية صحة الحسكة، التابعة للنظام، عيسى خلف، أن “المركز الطبي المحدث وسط المدينة يستقبل شهرياً نحو 1350 حالة إسعاف من الالتهابات المعوية الحادة، معظمها عند الأطفال جراء قطع المحتل التركي لمياه الشرب عن مدينة الحسكة والتجمعات السكانية التابعة لها”، كما جاء في تصريح للوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا)، في تموز/ يوليو الماضي، مشيراً إلى أن “الكثير من الأهالي يلجؤون إلى مياه غير موثوقة المصدر سواء للشرب أو للاستخدامات المنزلية، الأمر الذي يتسبب بتفاقم في عدد الأمراض والالتهابات”.

أربعة من أفراد عائلة سيامند محمد “أصيبوا بالتهاب أمعاء وإسهال شديد، ما استدعى مبيتهم في المستشفى”. منذ ذلك الوقت، يعتمد محمد “على طرود المياه المعدنية، وهي مكلفة بالنسبة لدخلي الشهري، البالغ نحو 50 دولار، لكنها ضرورية لصحة عائلتي”. 

موظف من منظمة آشنا للتنمية يدون معلومات أثناء تعبئة خزان مياه لعائلة في مدينة الحسكة، 06/ 09/ 2020، (آشنا للتنمية/ سوريا على طول)

موظف من منظمة آشنا للتنمية يدون معلومات أثناء تعبئة خزان مياه لعائلة في مدينة الحسكة، 06/ 09/ 2020، (آشنا للتنمية/ سوريا على طول)

جهود لا تغطي الاحتياجات

بعد إعلان مدينة الحسكة “منطقة منكوبة”، قال عيسى يونس، الرئيس المشترك للمديرية العامة للمياه في الحسكة أنه “ليس لدينا الكثير من الخيارات في وقت لا ينفع فيه سوى الاستعجال في إيجاد الحلول”، مشدداً على ضرورة تضافر جهود الجهات الرسمية والمنظمات الإنسانية “لدرء تبعات الأزمة المريعة عن الأهالي”.

فزعة للحسكة، أطلق أبناء العشائر في المنطقة حملات: “الحسكة تموت عطشى، الريان، ومن أهلنا لأهلنا”، تلبية لمناشدات أهالي الحسكة وحاجتهم للمياه “في ظل غياب دور المنظمات الدولية والإنسانية”، كما قال لـ”سوريا على طول”، حسان القلم، من مدينة الرقة، وهو أحد المتطوعين في حملة “الريان لسقيا عباد الرحمن”.

“انطلقت الحملة من الدافع والواجب للوقوف إلى جانب أهالي مدينة الحسكة، وقد تم توزيع 435 صهريج ماء، استفاد منها 7,025 عائلة”، خلال شهري تموز/ يوليو وآب،/ أغسطس، وهو حل إسعافي، إلى جانب “حفر 17 بئراً في مختلف أنحاء المدينة، ما يزال العمل عليها مستمر حتى الآن”، بحسب القلم.

عملت المنظمات المحلية في الحسكة في السنوات الأخيرة على إيجاد حلول لأزمة المياه، لكن مبادراتها غالباً ما تعجز عن تلبية احتياجات المنطقة، كما قال شيرزاد سيدو، المدير التنفيذي لمنظمة آشنا للتنمية، في حديثه لـ”سوريا على طول”.

وأضاف سيدو: “في كثير من الأحيان تكون الحلول مؤقتة، وتفتقر إلى الاستدامة على المدى الطويل، ناهيك عن تغيير خطط المنظمات بشكل دوري يؤدي إلى توقف الدعم عن مثل هذه المشاريع”.

حتى عام 2021، نفذت آشنا عدة برامج لدعم قطاع المياه في الحسكة، منها: توزيع مياه الصهاريج على البيوت في أحياء الصالحية، المفتي، وحي خشمان، واستفاد من هذا المشروع نحو 320 ألف مستفيد، بحسب سيدو، والثاني كان أكثر استدامة، وهو  عبارة عن حفر 29 بئراً في أحياء العزيزية، الضاحية، وخشمان، واستفاد منها نحو ستة آلاف نسمة، بالإضافة إلى مشاريع أخرى تم تنفيذها بالشراكة مع جهات محلية، وفقاً لسيدو.

توقفت المشاريع  بسبب نقص التمويل في عام 2021، لكن مع تفاقم أزمة المياه في الحسكة قبل شهرين، بدأت منظمة آشنا في نقل المياه بالصهاريج إلى أحياء الحسكة مرة أخرى.

ومن التحديات التي تواجه المنظمات العاملة في قطاع دعم المياه “عدم قدرة المنظمة على تغطية كامل سكان الحي المستهدف، على سبيل المثال، ما يخلق حالة من التزاحم وعدم الرضا في الشوارع المستهدفة من توزيع المياه”، وفقاً لسيدو، الذي قال: “تشير الإحصائيات الرسمية إلى تجاوز عدد سكان الحسكة المليون نسمة، وجميعهم متضررون من أزمة المياه”.

“علوك” هي الحل

يعتمد سكان شمال شرق سوريا على ثلاثة مصادر للمياه، أهمها: الأنهار، باعتبارها عصب الحياة في المنطقة تاريخياً، بالإضافة إلى المياه الجوفية ومياه الأمطار، وتغطي هذه المصادر احتياجات نحو 4.8 مليون نسمة، بينهم مليون نازح، وفقاً لتقرير مشترك لرابطة تآزر ومنظمة مالفا للفنون والثقافة.

تستخدم تركيا مياه نهر الفرات، الذي ينبع من أراضيها، ويمر في سوريا مسافة 600 كيلومتراً قبل دخول العراق، كورقة ضغط سياسية، ومع سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية (ي ب ك)، التي تشكل القوة الرئيسية في قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، استخدمت تركيا ملف المياه مراراً مراراً ضدها. 

يقضي البروتوكول، الموقع بين دمشق وأنقرة عام 1987، على أن كمية مياه الفرات المتدفقة إلى سوريا 500 متر مكعب في الثانية، لكن الكميات تقلصت في عدة فترات إلى 200 متر مكعب في الثانية منذ عام 2019، وهو من شأنه أن “يفاقم الأزمة الإنسانية القائمة، ويترك آثاراً كارثية على المجتمعات المحلية وعلى النظام البيئي والتنوع البيولوجي والهوية الثقافية في شمال شرق سوريا”، بحسب تآزر ومالفا.

ويزيد الجفاف من معاناة سكان الحسكة، خاصة أن المحافظة سجلت معدلات هطول أمطار أقل بنسبة 60% من متوسط السنوات الثلاث الماضية.

في أيلول/ سبتمبر الماضي، أدانت 110 منظمات سورية حرمان المدنيين في شمال شرق سوريا من “حقهم في الحصول على مياه كافية ومأمونة”، في ظل معاناة المنطقة “من أسوأ موجة جفاف منذ حوالي 70 عاماً، نتيجة التغير المناخي وقلة الأمطار وارتفاع درجات الحرارة واستخدام المياه كسلاح من قبل أطراف النزاع”، مطالبة الأمم المتحدة بالتدخل لإيجاد حل عاجل ومستدام لأزمة المياه.

وكانت الأمم المتحدة قد طالبت في تموز/ يوليو 2021 “استئناف خدمات المياه والكهرباء وحماية وصول المدنيين للمياه والصرف الصحي”، وحثوا “جميع الأطراف وبشكل فوري على توفير ممر آمن لوصول طواقم الموظفين التقنيين الإنسانيين بشكل منتظم ودون عوائق حتى يتم تشغيل محطة مياه علوك دون انقطاعات إضافية”.

مع استمرار أزمة مياه الحسكة، أعلنت الإدارة الذاتية، في أوائل آب/ أغسطس الماضي، عن البدء بمشروع استجرار مياه الشرب من منطقة جنوب عامودا إلى مناطق الحسكة وتل تمر والقرى المحيطة، وهو المشروع “الأول من نوعه، ويعتبر من المشاريع المهمة والريادية في قطاع المياه لما له من أبعاد إنسانية واقتصادية واجتماعية”، ويهدف إلى “تأمين مياه الشرب لأكثر من مليون نسمة في الحسكة والقرى الموجودة على طول خط الاستجرار”.

قبل ذلك، اقتصرت استجابة الإدارة الذاتية على وضع 60 صهريج مياه ضمن التدخل كحل سريع “لكنها غير كافية لتغطية حاجة الأهالي والكثافة السكانية في المدينة”، بحسب يونس، بالإضافة إلى “وجود ما يقارب 700 صهريج خاص يتم الرقابة عليها واتخاذ الإجراءات القانونية في حال وجود تجاوزات من قبل أصحاب الصهاريج”، على حد قوله.

من جهتها، طرحت منظمة آشنا للتنمية مجموعة من الحلول البديلة، من قبيل “استجرار المياه من نهري الفرات ودجلة، وحفر آبار في المناطق الغنية بالمياه والقريبة من مراكز ضخ المياه الذي شرعت الإدارة الذاتية بتنفيذه، بالإضافة إلى إنشاء محطات تحلية لمياه الآبار”، بحسب المدير التنفيذي للمنظمة، شيرزاد سيدو، لكن “تبين أن هذه الحلول يجب تنفيذها من قبل الإدارة الذاتية والجهات المعنية في المنطقة”، ولا يمكن لمنظمات -مثل آشنا، التي نفذت مجموعة من برامج دعم قطاع المياه في الحسكة- تنفيذها.

في هذا السياق، قال عباس علي موسى، باحث رئيسي في رابطة تآزر للضحايا أن “الحل يتمثل بضخ مياه محطة علوك، باعتبارها حلاً استراتيجياً مصمماً خصيصاً لتزويد المنطقة بالمياه”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن “كل المشاريع الأخرى، سواء استخراج مياه الفرات، أو حفر الآبار، هي ليست حلول دائمة ولا تغطي احتياجات المنطقة على المدى البعيد”.

وشدد موسى على ضرورة “تشغيل محطة علوك بشكل دائم، وعدم تأثرها بالعوامل السياسية من قبل جميع الأطراف، باعتبارها الحل الأمثل الذي ينهي أزمة المياه في المنطقة”.

مع دخول فصل الشتاء “يعتقد البعض أن أزمة المياه تكون أقل مما كانت عليه في الصيف، لكن في الواقع لا يتغير الوضع كثيراً”، بحسب شيماء، قائلة: “ربما يكون عندنا قدرة على التقنين أكثر، لكن تكاليف الحصول على المياه من الصهاريج لن تنخفض”.

 

تم إنتاج هذا التقرير بالتنسيق مع منظمة آشنا للتنمية، ضمن المرحلة الثانية من برنامج مراس لتمكين الصحفيين/ـات في شمال شرق سوريا.

 

تم إجراء تعديل على شهادة أحد المصادر، بتاريخ 26/ 10/ 2023، بناء على طلبه، استجابةً للمخاوف الأمنية التي قد تلحق به.

شارك هذا المقال