8 دقائق قراءة

زيادة “غير مجدية” ورفع للمحروقات: الأسد يستفز مواطنيه ويجر سوريا إلى كارثة جديدة

انعكست قرارات النظام الاقتصادية الأخيرة على أسعار غالبية المواد والخدمات الأساسية، بما في ذلك أسعار المحروقات في السوق السوداء، كما تسببت بموجة من التظاهرات والغضب في محافظات جنوب سوريا، وصلت إلى الساحل السوري.


23 أغسطس 2023

باريس – لليوم السابع على التوالي تستمر التظاهرات في محافظتي درعا والسويداء، جنوب سوريا، احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية في البلاد، مطالبة بـ”إسقاط النظام“، على خلفية رفع حكومة الأخير أسعار المحروقات، في 15 آب/ أغسطس الحالي، للمرة الثالثة عام 2023.

ومع أن هذه الاحتجاجات ليست كسابقاتها، كونها عمّت السهل والجبل، في إشارة إلى درعا والسويداء، ووصلت إلى الساحل السوري، حيث نادت أصوات فيه بإسقاط الأسد أيضاً، إلا أن إعلام النظام الرسمي، المتمثل بوكالة الأنباء الرسمية (سانا)، لم يسلط الضوء على تداعيات قراراته الأخيرة وما تسببت به من احتجاجات.

صدرت قرارات رفع أسعار المحروقات في ذات اليوم الذي أصدر فيه بشار الأسد المرسومين التشريعيين 11 و12، القاضيان برفع الرواتب والأجور بنسبة 100%، وكأنه دفع فرق الزيادة بيد وأخذها عبر رفع الأسعار باليد الأخرى.

حددت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة دمشق سعر لتر المازوت المدعوم بـ2000 ليرة سورية (0.13 دولار أميركي بحسب سعر الصرف في السوق الموازية البالغ 15100 للدولار الواحد)، والمازوت الصناعي بـ 8 آلاف ليرة (0.52 دولار)، والمازوت الحر بـ 11550 ليرة (0.76 دولار). أما البنزين المدعوم من نوع (أوكتان 90) بـ 8 آلاف ليرة لليتر، والبنزين الممتاز (أوكتان 95) بـ 13500 ليرة لليتر (0.89 دولار)، وبذلك سجلت أسعار البنزين زيادة بنحو 167% في محطات الوقود، ليتسبب رفع الأسعار بفوضى في خدمات النقل في العاصمة.

في المقابل، تراجع سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي، عشية هذه القرارات الاقتصادية، من 13900 ليرة للدولار إلى 15100 ليرة.

 

الجنوب يشتعل!

تستمر احتجاجات محافظات جنوب سوريا الثلاث: درعا والقنيطرة والسويداء، إذ بلغ عدد نقاط الاحتجاج في الأخيرة 40 نقطة، بما في ذلك مركز المدينة، أمس الثلاثاء، وشهدت المحافظة ذات الغالبية الدرزية إضراباً عاماً غير مسبوق، يومي الأحد والإثنين، وأجبر المتظاهرون الدوائر الحكومية على إغلاق أبوابها، كما أقدموا على قطع الطرقات، وجددوا الهتاف بـ”رحيل الأسد”، الذي نادوا به منذ الأزمة الاقتصادية في عام 2020.

من جهتها، لم تفوت محافظة درعا، التي تشهد مظاهرات من وقت لآخر، منذ توقيع اتفاق التسوية (المصالحة) بين فصائل المعارضة والنظام برعاية روسية في صيف العام 2018، الفرصة لتجديد التظاهرات.

خرجت المظاهرات من غالبية مدن وبلدات حوران، رافقها كتابات مناهضة للنظام على الجدران، احتجاجاً على تردي الوضع المعيشي، ومطالبة برحيل النظام، والإفراج عن المعتقلين في سجونه. وسجلت المحافظة في بعض مدنها إضراباً عاماً مفتوحاً منذ 20 آب/ أغسطس الحالي.

تخبط اقتصادي!

انعكست قرارات النظام الاقتصادية الأخيرة على أسعار غالبية المواد والخدمات الأساسية، بما في ذلك أسعار المحروقات في السوق السوداء، إذ ارتفع سعر لتر البنزين من عشرة آلاف إلى 18 ألف ليرة (0.66 إلى 1.19 دولار)، ولتر المازوت من ثمانية آلاف إلى 15 ألف (0.53 إلى 0.99 دولار).

وكذلك، ارتفعت المواد التموينية بمقدار هبوط سعر صرف الليرة، ومثال ذلك في مدينة إنخل بريف درعا الشمالي، حيث ارتفع ثمن كيلو السكر من 11 إلى 14 ألف ليرة (0.72 إلى 0.92 دولار)، ولتر الزيت النباتي من 23 إلى 30 ألف ليرة (1.52 إلى 1.98 دولار)، وتنكة زيت الزيتون من 800 ألف إلى 1.2 مليون ليرة (52.9 إلى 79.4 دولار)، كما قال لـ”سوريا على طول”، عبد المجيد الأحمد (اسم مستعار)، 27 عاماً،  المقيم في إنخل.

أمام هذا الارتفاع، كأن زيادة الرواتب لم تكن، لأنها “لا تمثل حلاً”، كما قال الأحمد لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن الراتب التقاعدي الشهري لوالده، الذي كان يعمل مدرساً، صار 220 ألف ليرة، (14.5 دولار)، بعد أن كان 110 ألف ليرة (7.25 دولار) بحسب سعر الصرف الحالي.

بعد “المكرمة الرئاسية” كما يُطلق عادة على المراسيم الرئاسية الخاصة بالزيادات والعلاوات “لا يكفي راتب والدي التقاعدي سوى ثلاثة أيام”، بحسب الأحمد، الذي قال أن “ثمن تعبئة صهريج مياه الشرب سعة 30 برميل تصل إلى 100 ألف ليرة”، أي ما يعادل (6.6 دولارات)، وهو نصف الراتب الشهري تقريباً.

تشير قرارات النظام الاقتصادية الأخيرة إلى “حالة تخبط كبيرة بالسياسات الاقتصادية للنظام”، وفقاً للدكتور كرم شعار، مدير البرنامج السوري في مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية، بعد أن “كان النظام يعول على دعم اقتصادي من دول الخليج العربي، لكن يبدو أنه لم يصل”.

وأضاف شعار في حديثه لـ”سوريا على طول”: “النظام على دراية بأن رفع الدعم بالطريقة والمستوى الذي حدث تعني أن زيادة الرواتب سوف تكون لشهر أو شهرين، وأنها سوف تتبخر بسبب رفع الدعم عن المحروقات، الذي يؤثر على بقية السلع”، لأن الصناعات الغذائية وغيرها “تعتمد على المحروقات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة”.

ومع أن زيادة الرواتب هدفها “تخفيف درجة الغضب الموجودة بالشارع، إلا أنها لم تنجح، لأن الكثير من الناس والخبراء يجمعون على أن زيادة الرواتب للضعف ليس لها معنى حقيقي”.

تعليقاً على ذلك، قال مناف قومان، الباحث الاقتصادي في مركز عمران للدراسات، ومقره تركيا: “من المفروض أن يقاس الراتب بمعدل زيادة أسعار السلع والخدمات”، فمثلاً يبلغ وسطي تكاليف المعيشة قرابة ستة ملايين ونصف مليون ليرة (430 دولاراً)، بينما يبلغ الحد الأدنى أربعة ملايين ليرة (264 دولار) لعائلة مكونة من 5 أفراد شهرياً، وبعض العائلات تقدر حاجتها بين 150 و250 ألف ليرة (9.9 و16.5 دولار) يومياً للإنفاق على الغذاء لعائلة من 4 أفراد، أي أن “راتب الموظف الذي يأخذه نهاية الشهر ينفقه في السوق بيوم واحد”، بحسب قومان.

وعليه، “من يريد أن يرفع الرواتب والأجور، عليه أن يضمن الاستقرار في معدلات الإنتاج والمواد الأساسية، وفوق كل هذا أن تأتي الزيادة في الكتلة النقدية تعبيراً عن نمو في الإنتاج الحقيقي لضمان استقرار الأسعار”، كما أضاف قومان لـ”سوريا على طول”، ولكن “لم يحدث أياً من هذا في سوريا على مدار السنوات الماضية، فالنظام يطبع أوراق نقدية دون أدنى قيمة، لذلك هذه الزيادة ستتبخر قبل أن تصل إلى يد الموظف نتيجة ردة فعل الأسواق والاختلالات الحاصلة في الاقتصاد”.

أيضاً، يمكن تفسير هذه القرارات الاقتصادية “المتشابكة”، في “ديناميكيتين رئيسيتين”، بحسب الباحث في الاقتصاد السياسي بجامعة لوزان في سويسرا، جوزيف ضاهر، أولهما: نقص الأموال من الدولة، إذ “انخفضت موارد النظام واحتياطياته وعائداته بشكل كبير خلال الحرب، ورداً على ذلك، تبنت الحكومة تدابير تقشفية، وخفضت الدعم على المنتجات الأساسية، مثل: الخبز ومشتقات النفط، ما أدى إلى تفاقم الظروف المعيشية لقطاعات كبيرة من السكان”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

تسببت هذه السياسات، برأي ضاهر، بـ”توسيع نطاق التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والإقليمية، مكررة المشكلات التي كانت قائمة قبل اندلاع الحرب في عام 2011″.

وثانيهما، تتمثل في أن “سياسات النظام الحالية هي استمرار لسياسات التقشف، مصحوبة بمزيد من تحرير الاقتصاد، التي بدأها النظام قبل عام 2011 وتسارعت في السنوات القليلة الماضية” وفقاً لضاهر.

ومثل دول أخرى في المنطقة والعالم، “غالباً ما يغتنم النظام السوري الأزمات كفرص لإعادة الهيكلة الاقتصادية ودفع التغيير إلى الأمام بطرق كانت ممنوعة سابقاً، بما في ذلك تقليص الدور الاجتماعي للدولة، ووقف الدعم ومزيد من تحرير الاقتصاد”، بحسب ضاهر.

مزيد من التضخم!

احتلت سوريا المركز الثالث عالمياً لجهة مستوى التضخم الاقتصادي السنوي في البلاد، بنسبة 238%، بعد كل من فنزويلا وزيمبابوي، بحسب مؤشر “هانكي”، المتخصص بقياس معدلات التضخم الاقتصادي في العالم، وفقاً لبيانات أسعار صرف العملات المحلية في السوق الموازية.

محلياً، قدرت الخبيرة الاقتصادية المقربة من النظام السوري، رشا سيروب، في منشور لها على “فيسبوك”، في حزيران/ يونيو الماضي، معدلات التضخم في سوريا بين عامي 2011 و2023 بأنها وصلت إلى 16137.32%، أي أن الأسعار زادت بما يتجاوز 161 مرة خلال 12 عاماً.

أثرت معدلات التضخم هذه، وكذلك انخفاض قيمة العملة الوطنية، على القوة الشرائية للسكان، ما فاقم تكلفة المعيشة بشكل كبير، إذ شهد النصف الأول من العام الحالي زيادة في متوسط السعر الوطني لسلة الغذاء المرجعية القياسية بنسبة 27% لتصل إلى قرابة 530 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 81 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف الرسمي البالغ 6540 ليرة سورية للدولار الأمريكي، آنذاك، كما قال الباحث الاقتصاد السياسي، جوزيف ضاهر.

لكن، في حزيران/ يونيو الماضي، صارت تكلفة السلة أغلى بنسبة 70% مما كانت عليه قبل 12 شهراً، وحوالي سبع مرات أكثر مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، وفقاً لضاهر.

مستويات التضخم هذه، تسببت بعواقب اجتماعية ملموسة للغاية، إذ “لا تطال تبعات الزيادة في أسعار المشتقات النفطية هيكل الإنتاج الاقتصادي فحسب، بل المجتمع بأسره أيضاً”، بحسب ضاهر، مستشهداً على ذلك بالأثر السلبي للزيادة في أسعار النقل على الأفراد الذين يعيشون خارج المراكز الحضرية الرئيسية، حيث توجد معظم مؤسسات الدولة والأنشطة الاقتصادية الرئيسية، كذلك توقف أعداد متزايدة من طلاب الجامعات والثانويات، الذين يعيشون في المناطق النائية عن الذهاب إلى أماكن الدراسة بسبب ارتفاع رسوم النقل.

أيضاً، أدى ارتفاع رسوم النقل إلى “مزيد من التغيب عن العمل في المؤسسات العامة”، إذ “تمثل تكاليف النقل أحياناً نحو نصف راتب الموظف”، كما قال. إذ يشهد القطاع العام في سوريا تزايد في أعداد استقالات الموظفين من وظائفهم، نتيجة ارتفاع تكاليف أجور النقل، وتدني مستوى الرواتب، وهو ما دفع للنظام لاتخاذ مجموعة من الإجراءات المتعلقة بتشديد الشروط الواجبة لقبول الاستقالة، ففي حزيران/ يونيو الماضي، أصدرت وزارة التربية في حكومة النظام، تعميماً، حددت فيه شروط قبول استقالة العاملين في الوزارة، بأن يكون العامل لديه خدمة 30 عاماً فما فوق، والعاملين الممنوح إجازة خاصة بلا أجرة لمدة سنتين متتاليتين، بالإضافة إلى من لديه وضع صحي معين يمنعه من أداء مهامه.

وأخيراً، كان لارتفاع أسعار المشتقات النفطية عواقب على قضايا الإسكان، من قبيل: “تكاليف تشغيل المولّدات الخاصة الباهظة للغاية، ما يؤدي إلى انقطاعات أطول للتيّار الكهربائي” قال ضاهر، ما أدى إلى تغيرات في عادات الاستهلاك، خاصة أن “الكهرباء غير قادرة على تشغيل الثلاجات، سواء تم توفيرها من القطاع العام أو المولدات الخاصة”. لذلك، “تشتري العائلات عموماً الطعام ليوم واحد فقط، أو تشتري المنتجات التي تكون صلاحيتها لبضعة أيام من دون الحاجة لتبريد”.

عودة إلى الحضن الإيراني؟

فيما تحاول دول عربية عدة تحقيق تقدم ملموس في الملف السوري، عبر قطار التطبيع العربي والمبادرة العربية، فإن المؤشرات ما تزال غير مبشرة، على صعيد التقدم في المناقشات مع النظام، وكذلك تدفق المساعدات العربية.

ففي 15 آب/ أغسطس الحالي، عقدت “لجنة الإتصال الوزارية العربية” بشأن سوريا، اجتماعاً في القاهرة على مستوى وزراء الخارجية، ضم القاهرة والرياض وبغداد وعمّان وبيروت، إضافة إلى النظام السوري، إلا أن البيان الختامي لم يحمل جديداً.

وفيما يستمر القطار العربي بالسير بشكل بطيء، في ظل عدم رضا العواصم العربية نتيجة استمرار تدفق المخدرات وعدم اتخاذ النظام خطوات ملموسة في إطار تحقيق المرحلة الأولى من المبادرة الأردنية المعروفة بـ”خطوة بخطوة”، التي تتضمن في مرحلتها الأولى ما وصفته بـ”خطوات بناء الثقة”، يتواصل انهيار النظام الاقتصادي، ما يضعه على المحك إما في الحبو تجاه الحضن العربي أو العودة إلى الحضن الإيراني.

“كان النظام موعوداً بمبالغ مالية عربية، لكن يبدو أنه لم يحصل عليها”، بحسب د. كرم شعار. نشرت وكالة رويترز في أيار/ مايو الماضي، أن السعودية عرضت على بشار الأسد، أربعة مليارات دولار، مقابل تخليه عن تجارة المخدرات.

تعليقاً على ذلك، قال د. شعار: “إن هذه الأرقام في سياقها، هي أكبر من موازنة سوريا خلال آخر سنتين، التي تراوحت بين 2 و3 مليار دولار، لكنها لم تصل نتيجة الضغوط الغربية، التي تصر على ضرورة تقديم النظام تنازلات حقيقية مقابل الحصول على الأموال”.

وعليه، فإن فقدان النظام الأمل في الحصول على الأموال العربية، يعني أنه “لم يبقَ لديه داعم حقيقي سوى إيران إذا ما تم استثناء روسيا، كون تدخلها عسكري وسياسي أكثر من الاقتصادي”، وهو ما دفع دمشق إلى “تقديم تنازلات لطهران بوتيرة غير مسبوقة في مجال الاستثمار بسوريا”، بحسب شعار.

أمام هذا الواقع وتعقيداته “لا أفق للاقتصاد السوري، وليس هناك حلول جزئية أو مستدامة طالما أن السياسات الاقتصادية المتبعة لازالت كما هي، والمقاربة التي يسير عليها النظام مستمرة كما لو كنا في 2011″، على حد قول الباحث في مركز عمران، مناف قومان، الذي توقع “مزيداً من ارتفاع الأسعار، واستمراراً في انهيار قيمة الليرة، وتعزيزاً لمسار الأزمة الاقتصادية في سوريا”، وهذا بدوره يؤدي إلى “زيادة فقر المواطن، ودفعه نحو التفكير بالهجرة، وتسرب الأطفال من المدارس والتعليم، والذهاب أكثر نحو النشاطات غير المشروعة مثل العمل في المخدرات وما شابه ذلك”.

كل المؤشرات تشير إلى أن “المستقبل الاقتصادي القريب لسوريا مقيت جداً”، بحسب د.شعار،  “ولا يبدو أن هناك مخرج من الوضع الحالي إلا عبر تسوية سياسية تعيد رأس المال الخاص والقروض والاستثمار الأجنبي إلى سوريا، وإلا فإن الأمور تتجه نحو كارثة حقيقية”.

شارك هذا المقال