8 دقائق قراءة

سوريا أونلاين: الأرشفة الرقمية تعيد جمع جيل شتته الحرب

تسهم الأرشفة الرقمية في حفظ الشهادات المستقاة من مصادر جماعية عن الحرب، وتخلق مساحة يُعيد فيها السوريون داخل البلاد وفي الشتات تجميع شظايا تاريخهم وخبراتهم وثقافتهم المشتركة.


بقلم ليز موفة

20 أغسطس 2023

عمان، أربيل- خطوط بلون قوس قزح، شوارب كثة، نظارات شمسية من موضة الثمانينات وصور متلاشية لمغنيات جميلات، تُشكل ملامح الأيقونات المختارة للتسجيلات الموجودة على الموقع الإلكتروني لـ” أرشيف الشرائط السورية، منصة على الإنترنت مخصصة لحفظ الشرائط السورية التي تم إنتاجها منذ السبعينيات.   

يحتوي أرشيف الأشرطة على مجموعة فريدة من الأغاني الناجحة وموسيقى الأطفال والأغاني الفلكلورية وإيقاعات الدبكة وأعمال كلاسيكية عربية. ما إن تنقر على أيقونة إحدى الشرائط، حتى تتنادى إلى مسامعك الألحان و الأغاني الشجية لموسيقيين عرب وكرد و آشوريين أو أرمن، وكذلك وصلات الأناشيد الدينية أو صوت جهوري لمغني عراقي منفي في سوريا .   

انطلقت منصة الأرشيف في مطلع عام 2022، من المجموعة الخاصة لـ”مارك جرجس”، موسيقي عراقي أميركي، برعاية جرجس ويامن مقداد، منسق موسيقى (دي جي) ترعرع في دمشق. وهي واحدة من عشرات الأرشيفات الرقمية، الكبيرة أو الصغيرة، خاصة أو من مصادر مفتوحة، التي لاقت رواجاً على الانترنت منذ بداية الثورة السورية في عام 2011، ويسعى كل منها إلى توثيق جانب من تاريخ سوريا وذاكرتها وثقافتها. 

“هناك عدة مبادرات تهدف إلى جمع وحفظ أرشيف الثورة السورية المستقى من الجمهور. بعضها مؤسساتي وبعضها أرشيفات مجتمعية… بعضها يُمعن النظر في الذاكرة الفنية والإبداعية، وبعضها ينظر في انتهاكات حقوق الإنسان”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، ديمة صابر، باحثة نشرت عدة مقالات عن الأرشفة المستقاة من مصادر مجتمعية.  

ولعلَّ أشهرها الأرشيف السوري، المعني بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم المرتكبة، منذ عام 2011، عبر جمع ملايين الصور ومقاطع الفيديو والشهادات الرقمية المستقاة من الجمهور. فيما تسعى مواقع أخرى، من قبيل: أرشيف الشرائط السورية، منصة قصتنا الروائية، منصة ذاكرة إبداعية للثورة السورية، التي تقدم محتوى بصرياً، و موقعي نوتة والخشبة، إلى تحقيق هدف جوهري آخر يتمثل في التمسك بجوانب مختلفة من المشهد الثقافي السوري المتشظي، لضمان بقائها في متناول الأجيال الحالية والقادمة.

ومع أن لكل أرشيف أهدافه الخاصة وطرقه وقدراته، غير أن جميعها تصب في بوتقة واحدة وتواجه تحدياتٍ متشابهة. إذ يشكل البحث المنهجي الطويل عن الوثائق والمصادر تحدياً وسباقاً مع الزمن بسبب الطبيعة اللحظية العابرة لكثير من المحتوى الذي يسعون إلى جمعه. 

جزء من مُلصق إعلاني عن مسرحية “الزوبعة”، للكاتب المصري محمود دياب، عرضت  في سوريا عام 1972، رقمنها ورفعها أرشيف الخشبة- المسرح السوري (الخشبة)

توثيق جرائم الحرب وإنقاذ الثقافة

يحتفظ الناس بالمواد ويؤرشفونها لعدة أسباب “أحدها، ما تحمله من شهادات وقيم تاريخية” وفقاً لصابر، “فهم يريدون حفظ الأشياء التي يعتقدون أنها مهمة. وهناك أيضاً قيمة إثباتية، إن كانوا يعتقدون أنه يمكن تحويلها إلى دليل يمكن استخدامه لاحقاً أمام القضاء، كما أن هناك قيمة إبداعية”.

السببان الأوليان هما ما يدفعان الأرشيف السوري، الذي تم إطلاقه في عام 2014 ومقره برلين، للحفاظ على المحتوى الرقمي الصادر من سوريا خلال الثورة والحرب. وتشمل مجموعته مقاطع فيديو توثق مجازر الكيماوي، التي ارتكبها النظام السوري بحق المدنيين. 

على مدى عقد من الزمن تقريباً، جمع الأرشيف السوري أكثر من 5.2 مليون مادة، بما في ذلك النصوص والمقالات والصور ومقاطع الفيديو والخرائط المتعلقة بسوريا، كما أصبح مصدراً رئيسياً في تقديم الأدلة للمحققين والصحفيين ومنظمات حقوق الإنسان العاملة في النزاع. 

“الغرض من إنشاء هذا الأرشيف صون المواد [التي توثق انتهاكات حقوق الإنسان]”، كما قالت حنين حداد، منسقة الأبحاث في الأرشيف، لـ”سوريا على طول”، موضحة أن “بعضها دليل مهم للغاية، أو ربما الدليل الوحيد أحياناً على حدوث جريمة معينة. لذلك إن اختفى، تختفي الذاكرة المرتبطة بهذا الحدث، ولن نتمكن من إثبات أي شيء مستقبلاً “.

كثيراً ما يتلقى الأرشيف السوري طلبات خارجية لحفظ الوثائق التي تم حذفها من منصات أخرى كانت قد نُشِرت عليها في الأصل. وُلدِت العديد من مواقع الأرشفة الشقيقة انطلاقاً من هذه التجربة الناجحة، لتغطي مناطق الصراع مثل اليمن والسودان وأوكرانيا.

إلى جانب الأرشيف السوري، ظهرت منصات تخزينية أخرى على الإنترنت في السنوات الآخيرة، يقودها في الغالب سوريون في بلاد الشتات بغية الحفاظ على الأوجه المختلفة لتاريخ البلاد وثقافتها وتراثها. 

“لأي هوية وطنية مكونات مختلفة. يرتكز جزء منها على الثقافة والذاكرة الفنية، وهذا الجزء من الهوية مهدد الآن”،  بحسب محمد عميرة، مسؤول برامج في دوزان ثقافة وفن، منظمة مقرها تركيا تُعنى بحفظ الذاكرة الثقافية السورية، موضحاً في حديثه لـ”سوريا على طول” أنه “بعد فرار عدد هائل من الناس من البلاد، أو طلبهم اللجوء، باتت الهوية السورية مهددة حقيقة بالدمار والضياع”. 

تدير دوزان عدة برامج أرشيفية افتراضية، توثق جوانباً مختلفة من الإنتاج الفني السوري، سواءً الماضي أو الحاضر، منها: نوتة، التي تؤرشف الموسيقى والرقصات الفلكلورية من خلال النوتات الموسيقية والأبحاث والتسجيلات والسير الذاتية للفنانين السوريين، والخشبة، التي تركز على المسرح من خلال المسرحيات المسجلة والنصوص المسرحية والملصقات والبروشورات الإعلانية وغيرها من الوثائق. 

عرض مسرحية “الزوبعة” في سوريا عام 1972 ، من إخراج حسين إدلبي.  (الخشبة)

غالباً ما يُشكك العمل الذي تنجزه المنظمات بالسرديات السائدة عن الثقافة السورية قبل الحرب، إذ “من خلال بحثنا، وجدنا أن المشهد المسرحي كان حاضراً في كل مدينة سورية، ليس فقط في دمشق. كان هناك مشهداً مسرحياً في السويداء، حماة، والسلمية… غير أنَّ بعض هؤلاء الفنانين لم يكونوا ضمن الصورة المعروضة للجمهور خارج سوريا”، بحسب عميرة. 

تتعمد المنصات الأرشيفية الثقافية الافتراضية تضمين أعمال الفنانين المحليين والمهمشين، لتظهر تنوع التيارات العرقية، الدينية، الثقافية، والسياسية التي كانت ترفد المشهد السينمائي، المسرحي، والموسيقي لسوريا قبل الحرب.

تملك نوتة مشروعاً خاصاً يركز على الأغاني الفلكلورية، التي يتوارثها الفلاحون جيلاً بعد آخر، ويضم أرشيف الشرائط السورية أغانٍ  للأطفال، بعضها لا يُعرف مؤلفوها، إلى جانب الخطب الدينية.

ربط السوريين عبر الحدود والزمن

لا ترمي الكثير من الأعمال الأرشيفية المعنية بسوريا إلى حفظ الماضي بقدر ما ترمي إلى التحضير لمستقبل مشترك.

“أعتقد أنَّ هناك رابطاً مهماً بين القدرة على تأسيس إجماع على ماضينا الجمعي، والقدرة على التعايش وبناء مستقبل مستقر وسلمي، إذ يمكن للأرشيف أن يتيح للمجتمعات بناء فهم مشترك عن تجاربهم الجمعية، وأن تؤدي دوراً مهماً رئيسياً في بناء ذاكرة جمعية”، بحسب صابر.

وأضافت: “أريد أن أسهم في الجهود التي يمكن أن تحول دون حدوث نفس المأساة اللبنانية في سوريا، المتمثلة في عدم التوصل إلى إجماع حول تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية”.

من أجل بلورة الذاكرة الجمعية للحرب، يحتاج السوريون إلى الوصول للمصادر التاريخية المشتركة، الوثائق والأدلة، وأيضاً الثقافة. مع وجود نحو ربع سوريا خارجها الآن، يترعرع العديد من الشباب في المنفى بروابط ضعيفة مع تاريخهم وتراثهم. 

“هناك أعداد كبيرة من الجيل السوري الجديد لا يعرفون ماذا أنتجت سوريا”، قال عميرة بأسى. وأولئك الذين يودون إعادة الارتباط بجذورهم ربما لا يعرفون من أين يبدؤون. 

“إذا غادرت سوريا في العاشرة من عمرك، ستذهب إلى بلد جديد كلاجئ”، سيكون لديك شغف بالإنتاج الفني، لكن “على الأرجح ستتعرف عليه في البلد الجديد”، بحسب عميرة، مضيفاً: “ما نحاول القيام به من خلال أرشيفنا هو تمكين الشباب السوري والفنانين الشباب اكتشاف ماهية الفن السوري سابقاً، والاستلهام منه في خلق إنتاج جديد معاصر وحديث. من خلال برنامجي نوتة والخشبة، نحاول فتح مساحة حوار ونقاش للناس، وفتح أعينهم على تاريخ سوريا”. 

تسهم هذه المنظمات في إعادة تجميع المشهد الفني المتشظي بسبب الحرب والتهجير. يطلق مختصو الأرشفة في دوزان تعريفاً فضفاضاً لـ “الفن السوري” يضم الأعمال المنتجة في سوريا قبل تاريخ ثورة عام  2011 وبعدها، وكذلك إبداعات الفنانين السوريين في المنفى. وتنشر المنظمة أيضاً المعلومات والإنتاجات الفنية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سعياً لإيصالها إلى جمهور واسع من غير المطلعين -ربما- على التاريخ الموسيقي أو  المسرحي العريق لسوريا.  

سباق مع الزمن

تواجه جميع هذه المبادرات الأرشيفية، سواءً من تؤرشف أدلة مرئية عن الفظائع المرتكبة، أو الإرث الفني السوري، معركة شاقة ضد الزمن وحالة التشرذم التي يعيشها المجتمع السوري. 

“على مستوى الأرشفة، كان من الصعب العثور على الموارد والوصول إلى المصادر، لأن بعض الفنانين والمنتجين ماتوا”. لكن حتى المواد التي تم نشرها على الإنترنت صارت مهددة بالزوال والاختفاء ما بين عشية وضحاها.

تتجلى إحدى العقبات الرئيسية التي تواجهها هذه المنظمات في سياسات منصات وسائل التواصل الاجتماعي المتغيرة بسرعة. وفي ذلك، قالت حداد، من منظمة الأرشيف السوري: “أي تغيير في سياسات منصات وسائل التواصل الاجتماعي يؤثر علينا بشدة”، مشيرة إلى أن “هذه التغيرات يمكن أن تخلق ثغرات وتحديات تتعلق بالحفظ، لذلك فإننا في سباق دائم لإيجاد حل تقني جديد”.   

“وجدنا أن الكثير من الصفحات على الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي لم تعد نشطة منذ ثلاث أو أربع سنوات”، قال عميرة، وفي مثل هذه الحالات “نحاول التواصل مع أصحابها ونؤرشف الأعمال التي نشروها، لأنَّ هذه الصفحة ستُغلق”.

في عام 2017، بدأ اليوتيوب بإزالة أعداد ضخمة من الفيديوهات ذات المحتوى المُصنَف على أنَّه قاسٍ أو غير مناسب، ومن ضمنها العديد من الفيديوهات التي توثق جرائم الحرب في سوريا. في أيار/ مايو 2023، أعلن تويتر عزمه البدء بحذف الحسابات غير النشطة، ما أثار المخاوف من فقدان المحققين محتوىً نشره ناشطون قد سُجِنوا أو قُتِلوا أو اختفوا. 

“جميع هذه التحديات تعني أننا في سباقٍ مع الزمن لحفظ وإنقاذ هذا المحتوى قبل حذفه”، بحسب حداد.

يستخدم الأرشيف السوري برامج داخلية لتنزيل المحتوى من قائمة المصادر الموجودة على الإنترنت التي يرى أنها موثوقة. وبهذه الطريقة، يتم تخزين نسخة احتياطية لكثير من المحتوى -المنُتج من سوريا وعنها-  على خوادم المنظمة الخاصة، بحيث يمكن استعادته في المستقبل حتى إن تمت إزالة الموقع الإلكتروني أو الحساب الذي نشر هذه المواد لأول مرة. 

ولكن حتى الأرشفة التلقائية لا يمكنها أن تتغلب على السرعة، التي تُحدِّد فيها الخوارزميات والذكاء الاصطناعي المتطور باستمرار، المحتوى “القاسي” وإزالته من وسائل التواصل الاجتماعي، بحسب حداد، قائلة: “أريد أن أؤكد على أن أي محتوى موجود على منصات التواصل الاجتماعي غير محصَّن”، لذلك “يجب على النشطاء في أي منطقة صراع ألا يتعاملوا مع منصات التواصل الاجتماعي على أنها خوادم (سيرفرات)، لأنَّهم لا يمكن أن يضمنوا أن يبقى هذا المحتوى إلى الأبد”.

تشغل صابر حالياً مديرة البرنامج  في ميدان، وهي منظمة غير ربحية تدعم الصحافة المستقلة ومحو الأمية الإعلامية وحقوق الإنسان، كما تعمل أيضاً مع أعضاء الأرشيف السوري على مشروع جديد يسمى الذاكرة الرقمية السورية. سيعرض المشروع بعض مقاطع الفيديو الخاصة بالأرشيف السوري إلى جانب قصص السوريين الذين صوروها.

“هناك أسباب مختلفة وراء قيامهم بهذا، وأحدها هذا الهوس بحماة”، قالت صابر، في إشارة إلى مجزرة  حماة، التي ارتكبها الجيش السوري عام 1982 بمدينة حماة، رداً على الانتفاضة التي خرجت ضد نظام حافظ الأسد آنذاك.

تختلف التقديرات بشأن الحصيلة النهائية لأعداد القتلى في مجزرة حماة. ربما أسفر القصف العشوائي عن مقتل ما لا يقل عن 40 ألفاً من السكان،  ولكن لم يبق هناك فعلياً أي دليل  مرئي أو تاريخي عن عمليات القتل، إذ إن التعتيم الإعلامي عن الحدث طيلة شهور، والصمت الشعبي الذي استمر على مدى عقود لم يدع للناجين ما يمسكون به، ولا حتى مساحة يبوحون من خلالها بمصيبتهم لغيرهم من السوريين. 

قالت صابر: “هذا هو نوع الهواجس التي تراود جميع مصوري الفيديو الذين تحدثنا إليهم، يقولون: لا ينبغي أن يتكرر ذلك أبداً”.

هذا التقرير نُشر أصلا في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور

شارك هذا المقال