8 دقائق قراءة

عالقون في الصحراء: سوريون في الركبان يتاجرون بالطيور النادرة 

في مخيم الركبان النائي، أصبح اصطياد هاجس السكان اليائسين. وبينما يتجلى حلم الصيادين في شتى أنحاء سوريا بتغيير حياتهم، يدفع الطيور ثمناً باهظاً لقاء ذلك. 


بقلم ليز موفة

16 مارس 2022

باريس- بابتسامةٍ عريضة، يظهر رجل بمنتصف العمر وسط صحراء سوريا، في فيديو، وهو يمسك بيده صقراً حياً، ومن ثمّ يخرّ ساجداً تعبيراً عن فرحة عارمة بهذا الصيد الثمين. 

حصل موقع “سوريا على طول” على هذا الفيديو وعشرات الصور من أهالي مخيم الركبان الصحراوي، الذي يقع على الحدود السورية-الأردنية، وفي إحدى الصور يجلس رجلاً بجوار صقر مقيّد بفراش صغير، فيما تظهر صورة أخرى عشرات الطيور الصغيرة الميتة ملقاة على طاولة بيضاء.

تعدّ هذه الصور بالنسبة للرجال تذكاراً نفيساً يحيي في نفوسهم السعادة لأن الحظ حالفهم، فاصطياد الطيور من الأنشطة التي تجلب الفرح والمال لنحو عشرة آلاف نازح سوري في الركبان، منسيون في منطقة محرمة على الحدود، وانقطعت عنهم المساعدات الإنسانية.

لكنها، بالنسبة لمناصري حماية البيئة وعاشقي الطيور ليست سوى تذكاراً شنيعاً بأنَّ التجارة المحرَّمة بالطيور المهددة بالانقراض ما تزال مزدهرة في سوريا رغم الحرب، وهو ما من شأنه أن يدفع بعشرات الأصناف النادرة إلى حافة الانقراض.

نوبة صيد

يجاور مخيم الركبان قاعدة التنف العسكرية، وهي قاعدة عسكرية أميركية، تقع في منطقة عسكرية تمتد على مساحة 55 كيلومتراً، بالقرب من الحدود الأردنية، وتشرف عليها فصائل الجيش الحر المدعوم من التحالف الدولي.

ويعاني سكان المخيم من شح الأدوية والمواد الغذائية، التي يتم تهريبها بأسعارٍ باهظة، نتيجة الحصار المفروض من النظام السوري، وفي ظل غياب المساعدات الإنسانية، إذ دخلت آخر قافلة مساعدات للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2019، وهي الثالثة منذ كانون الثاني/ يناير 2018.

في كل سنة، تحلق ملايين الطيور المهاجرة غير أبهةٍ بخطوط صراعٍ أو بالحدود وتحوم فوق رؤوس قاطني المخيم العالقين في الصحراء بانتظار مساعدات لا تأتي أبداً.  

في كل سنة، تطير ملايين الطيور المهاجرة غير أبهةٍ بخطوط صراعٍ أو بالحدود، وتحوم فوق رؤوس قاطني الركبان العالقين في الصحراء بانتظار مساعدات لا تأتي أبداً، حيث يقع المخيم ضمن أحد أكبر مسارات هجرة الطيور في العالم.

مسار الطيور في سماء الركبان، نعمة لقاطنيه المحاصرين. ففي فصل الصيف، تقع أسراب كاملة من الطيور الصغيرة في شباك الصيادين أو في الفخاخ المنصوبة بالقرب من الأشجار وتجمعات المياه المتناثرة في الصحراء.

وإذا كان الصيد وفيراً، تعدّ الولائم وتهرّب بعض الطيور إلى خارج المخيم لبيعها، ومما يتم اصطياده في الركبان طيور القطا وزقزاق الرمل وغيرها من الأنواع، أهمها الصقور، وهي الأغلى ثمناً.

اصطياد عشرات الطيور دفعةً واحدةً باستخدام الشِباك والعيدان المطلية بمادة لاصقة، وإعدادها بأكملها وجبة طعام (قاطنو الركبان/ سوريا على طول)

“هوس جنوني”

“اصطياد الصقور هواية أسلافنا، ومن لم يجرّب الصيد من قبل، تعلمه في الركبان”، قال أحمد، أحد سكان المخيم لـ”سوريا على طول”، وهو من الأشخاص الذين لهم باعٌ طويل في اصطياد الطيور يفوق عشرين عاماً.

وفي فصل الصيف من كل عام، الذي يمتدّ من أواخر آب/ أغسطس حتى تشرين الثاني/ نوفمبر، يتوجه مئات الرجال للتخييم في الصحراء، ضمن منطقة الـ55، ويقضون عدة أسابيع بلياليها. يمعنون النظر إلى السماء مع ساعات الفجر، وهو التوقيت الأفضل لاصطياد الصقور، ويجوبون الصحراء لساعات طويلة بحثاً عن طائر.

وعندما يتم رصد صقر في المنطقة، يُطلق الصيادون طعماً حيأً، حمامة كما جرت العادة، يُثبت على ظهرها عقدة من الأسلاك، وإذا حالفهم الحظّ فإن الطير الجارح سينقض على الفريسة الطعم وينشب مخالبه فيها، وسرعان ما يقع بالفخ، مثقلاً بفريسته، وعاجزاً عن تحرير مخالبه من شراك الفخ، إلى أن يهوي الصقر أرضاً في النهاية. وبسيارة دفع رباعي، ينطلق الصيادون إلى مكان الطير.

“أصبح صيد الصقور هوساً جنونياً لا يمكن مقاومته رغم تكاليفه الباهظة” بحسب ما ذكر إبراهيم*، أحد قاطني المخيم لـ”سوريا على طول”. عملية الصيد قد تستمر طيلة فصل الصيف رغم ارتفاع تكاليفها، إذ تصل إلى 2.000 دولار أميركي للسيارة الواحدة، تقسم التكاليف بالعادة على أربعة أشخاص، وهي تشمل الوقود وتجهيزات الطعام وأدوات الصيد، فيما يبلغ سعر الطعم 1.5 دولاراً فقط. 

تُصنع الفِخاخ وتُباع في المخيم (أهالي الركبان/ سوريا على طول)

ورغم ما يترتب عليه من تكاليف باهظة، يعدّ الصيد ملاذاً للكثيرين، يخرجهم من حالة البؤس التي يعيشونها في المخيم الصحراوي، ويمنح الرجال سبباً لمغادرة الركبان، وفرصة لاستعادة صلتهم مع تراثهم المتجذّر في الصحراء.

الكنز الطائر

تبعث بعض فصائل الطيور، من قبيل الصقور، آمالاً عند سكان الركبان بالثراء العاجل، وفرصة لقلب الأحوال المادية، إذ يمكن بيعها بعشرات آلاف الدولارات في أسواق الحيوانات البرية الموجودة في المنطقة.

في العام الماضي، بيعت ستة صقور في مخيم الركبان وحده، بأسعار تراوحت بين 1,000 و25,000 دولار، بحسب ما ذكر سكان المخيم، ورغم أن هذه الأرقام ثروة كبيرة في المخيم، إلا أن هذه الأسعار أدنى بكثير من تلك التي يدفعها المالك الأخير ليحظى بهذا الطير.

يتم التفاوض على أسعار الصقور بين البائع والمشتري عبر الهاتف، ويحظى بها من يدفع أكثر، وغالباً ما ينحدر تجار الطيور من مدينة الرحيبة، على بعد 50 كيلومتراً شمال شرق دمشق، وتُعرف بـ”عاصمة الصقور“. 

وقبل اندلاع الحرب، كان يعمل نحو 170  صقّاراً (تاجر طيور) على الأقل في الرحيبة، مما جعل منها السوق الأكبر لبيع الصقور في سوريا، وما تزال تجارتهم مزدهرة عبر خطوط الصراع، ويستطيع التجار القاطنون في مناطق النظام استلام الطيور من شتى أنحاء سوريا، بما فيها المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كالرقة

بمجرد بيعه، تُجرى الترتيبات لإيصال الطير إلى الرحيبة بواسطة حفنة من المهربين الذين يجلبون السلع الغذائية الأساسية إلى المخيم، ممهدين طريقهم برشوة عناصر حواجز النظام، ومن ثم يتم الترويج للصقور عبر الإنترنت، لتباع إلى وجهتها النهائية، وغالباً ما تكون دول الخليج العربي.

ويختلف سعر الطير بحسب نوعه وعمره وحجمه ومظهره، إذ تحظى الطيور الأصفر سناً رواجاً أكبر في الأسواق نظراً لسهولة تدريبها، ولكن بالمجمل تتم المتاجرة بأربعة أصنافٍ من الصقور: الصقر الحر والشاهين، وهما نوعين من الطيور المهاجرة يتم صيدها في الخريف، وهي الأعلى قيمةً عند الصقّارين، ويتراوح سعرها بين 6,000 و60,000 دولار، فيما يُعتبر الصقر الوكري والبربري، أقل ثمناً، وهما فصيلتان من الطيور المقيمة.

سوق مزدهر

الأردن وسوريا ودول الخليج من الدول الموقعة على اتفاقية الاتجار الدولي بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المعرضة للانقراض (CITES)، وهي معاهدة عالمية تحظر الاتجار بالأصناف النادرة و المهددة  بالخطر،  ومن ضمنها الصقور.

ومع ذلك، ينتشر صيد الصقور والاتجار بها في جميع هذه الدول، وكان الوضع “مأساوياً” في سوريا حتى قبل الحرب، على حد وصف نشأت حميدان، مدير مركز مراقبة التنوع الحيوي في الجمعية الملكية لحماية الطبيعة (RSCN) الأردنية.

تجارة الصقور: سوقٌ مزدهر ومشروع كبير يرفده أثرياء الخليج

واستذكر حميدان صدمته من الانتشار الواسع لصيد الصقور في ريف حلب، أثناء إجراء تقييم لحياة الطيور هناك عام 2008، إذ “في قريةٍ واحدة، كان جميع رجالها تقريباً يشاركون في صيد الصقور! رأينا حينها ما لا يقل عن عشرة مجموعات يبحثون عن الصقور، علماً أن كل مجموعة تتضمن عشرة أشخاص على الأقل”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

حتى عام 2012 كانت تصدّر سوريا نحو 300 صقر سنوياً، لكن الأرقام الحقيقية على الأرجح أكبر بكثير، حيث يتم تهريب معظم الطيور بطرق غير قانونية، أما بالنسبة للمعاملات تتم في العلن بشكلٍ أو بآخر، نظراً لغياب إنفاذ القانون والعقوبات المحدودة المفروضة على الصيادين، من قبيل فرض غرامة مقدارها 50 إلى 250 ليرة سورية، أي ما قيمتها قبل عام 2011 بين 1 و5 دولارات، والحبس لمدة يومين وأقصاها شهرين.

وشهد العقد الماضي، الذي صادف سنوات الحرب في سوريا، رواج هذه التجارة على نحو غير مسبوق، خاصة أن الوكالات المعنية بحماية الطبيعة غير مستقرة، وأجهزة إنفاذ القانون غائبة، وشبكات التهريب الدولية بين سوريا ولبنان مزدهرة، مما سهّل بيع الصقور إلى الخارج. كما أن الارتفاع الحاد في معدل البطالة والفقر كان على الدوام حافزاً للصيادين غير القانونيين للمضي قدماً في صيدهم.  

تعدّ تجارة الصقور في المنطقة بأكملها “سوقاً مزدهراً ومشروعاً كبيراً يرفده أثرياء الخليج”، وفق ما ذكر لـ”سوريا على طول”، فارس خوري، رئيس الجمعية الأردنية لمراقبة الطيور.

ولطالما كانت تجارة الطيور (الصِقارة) باستخدام الطيور الجارحة المدربة لاصطياد أنواع أخرى من الطيور رياضة تقليدية تمارسها النخبة في السعودية والكويت والإمارات وقطر.  ومع تنامي الثروة، بات امتلاك الصقور طريقة البعض لاستعراض مكانتهم الاجتماعية، وبرز ذلك منذ خمسينيات القرن الماضي، وهذا كان وراء زيادة اصطياد الصقور في جميع أنحاء الشرق الأوسط وما تزال مستمرة حتى يومنا هذا.

وعلى مدى زمن طويل، يتم إنشاء مزارع لتربية الصقور وتكاثرها وتدريبها، ومن ثم تصديرها على نحو قانوني، ولكن رغم وفرة الطيور التي يتم تدجينها، يفضل الكثيرون امتلاك الصقور البرية، والسبب “بريستيج”، بحسب خوري، مشيراً إلى أنها “طريقة للتباهي، كامتلاك سيارةٍ فارهة”.

وتعبر معظم الصقور، التي يتم اصطيادها في الركبان، الصحراء التي اصطيدت فيها أثناء رحلتها إلى وجهتها الأخيرة في الخليج، فهي تُكمل مسار هجرتها جنوباً.

صقور مُغطاة الرأس ومربوطة الأرجل مُجهزّة للنقل (أهالي الركبان/ سوريا على طول)

وقلما كان يتم الاتجار بالطيور عبر الأردن خلال الحرب، ويعود ذلك بشكل كبير إلى إغلاق الحدود مع سوريا لزمن طويل.

ورغم ذلك، هناك الكثير من طرق الاتجار المفتوحة، وربما باتت أوسع بكثير مما مضى، إذ يرسل العديد من المهربين الطيور إلى لبنان ومن ثم ينقلونها بالطائرة إلى الخليج. ويتم تصدير بعضها “قانونياً” بشهادات مزورة تشير إلى أنها طيور داجنة، فيما يتم تخدير بعضها الآخر وتعبئتها وتهريبها دونما تصريح.

في طريقها للانقراض

جميع الطيور التي شارك صورها أهالي الركبان هي من الأصناف النادرة والمحمية، وفق ما ذكر علماء الطيور الذين قابلهم موقع “سوريا على طول”. ورغم صعوبة جمع بيانات شاملة لتقدير تعداد الطيور في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، يرى خبراء أن الكثير من هذه الأنواع آخذة في الانخفاض محلياً، إن لم يكن عالمياً.

طيور القطا، التي تُصطاد للطعام ليست مهددة بالانقراض ولكن تعدادها في انخفاض كبير(أهالي الركبان/ سوريا على طول)

نادراً ما يدرك الصيادون في منطقة الركبان وغيرها من المناطق في الأردن وسوريا التأثير الكارثي لهوايتهم على البيئة، فهي بالنسبة لهم رياضة أصيلة، لا تعدو أكثر من إمساك حفنةً من الصقور شريطة احترام أعراف الصيد. 

“فالصيد في الربيع مُحرّم لأنَّ الطيور تضع بيوضها، ونحن نحترم هذا الوقت للحفاظ على تكاثرها”، كما قال عصام*، صيّاد من الركبان، لـ”سوريا على طول”.  

عُرفت الصِقارة منذ زمن بعيد ولكنها لم تكن بهذا الحجم

وإذا كان التأثير الفردي للصيد محدوداً، فإن اتساع نطاق الصيادين يزيد من خطورته. “عرفت الصقارة منذ زمن بعيد ولكنها لم تكن بهذا الحجم”، بحسب ما أكدّ خوري. “الآن هي تجارة كبيرة”، تغذي سوقاً غير شرعية أخطبوطية تتضمن مئات صيادي الصقور والوسطاء والمهربين والمدربين والباعة. 

وأعرب خوري عن أسفه “لا أعلم منذ متى لم نر صقراً وكرياً في الأردن، لقد كان طائراً مقيماً في الصحاري، وكان الصقر البربري منتشراً نسبياً، ولكن أعدادها آخذة في الانخفاض في كثير من المناطق”. يتعرض الصقر الحر المهاجر للخطر، وربما هو في طريقه إلى الانقراض بسبب الصيد، بينما يزداد الضغط على مجموعات الطيور المقيمة مثل صقور الوكري والبربري.

ولهذه الممارسات تأثيرات تراكمية حتمية على الأصناف الأخرى “تستخدم الصقور في فعاليات الصيد العربية البازخة، كالذهاب مثلاً إلى أذربيجان وآسيا الوسطى لاصطياد وقتل الطيور النادرة”، بحسب ما قال لـ”سوريا على طول”، توماس أكسين هارالدسون، ناشط مستقل في مجال حماية البيئة وعضو في جمعية علم الطيور في الشرق الأوسط والقوقاز وآسيا الوسطى (OSME).

الصقور “رمز وجزء من الفلكلور المتعارف عليه في المنطقة”، بحسب هارالدسون، و”جزء قيّم من التراث الطبيعي”. مشيراً إلى أن الصقور تجسد القوة والصلابة في الصحراء القاسية وهاتان من الخصال التي يعتز بها أهالي الركبان.

*تم تغيير الأسماء في هذا التقرير لعدم كشف هوية الصيادين.

تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية سلام الأمين

شارك هذا المقال