7 دقائق قراءة

طريق العدالة مسدود وتهديدات مستمرة تطال ذوي ضحايا “عيد النوروز” في عفرين

لجأ ذوو الضحايا من عائلة "بيشمرك" إلى القضاء التابع للحكومة السورية المؤقتة في عفرين، ولكن رغم مرور نحو ستة أشهر على الحادثة ما زالت القضية مفتوحة، والعائلة تتعرض لضغوطات مستمرة من الفصيل الذي يتبع له الجناة.


21 سبتمبر 2023

في ليلة 20 آذار/ مارس 2023، حاول بعض الكرد في منطقة عفرين، شمال غرب سوريا، الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني السوري (المعارض)، المدعوم من أنقرة، الاحتفال بـ”ليلة النار”، التي تسبق عيد النوروز، وهو عيد قومي لهم يصادف 21 آذار/ مارس من كل عام.

كان متوقعاً حدوث عمليات ترهيب للسكان الأصليين ومنعهم من الاحتفال، في منطقة تعيش صنوفاً من الانتهاكات بحق أهلها والمهجرين إليها، لكن ما حصل ليلتها تجاوز التوقعات، عندما قُتل أربعة أشخاص من عائلة واحدة في ناحية جنديرس التابعة لعفرين، على يد عناصر من جيش الشرقية، المنضوي في صفوف الجيش الوطني.

تعالت الأصوات بمحاسبة الجناة والحد من الانتهاكات المتواصلة منذ سيطرة الجيش الوطني على المنطقة بدعم تركي، في آذار/ مارس 2018، ضمن عملية “غصن الزيتون”. بعد الحادثة، تدخلت هيئة تحرير الشام، وتعهد قائدها أبو محمد الجولاني بعدم تعرض الكرد للاعتداء مرة أخرى، لكن تراجع وجود الهيئة بعد أيام من الحادثة.

اقرأ المزيد: بعد حادثة جنديرس: “ورقة الأقليات” بوابة الجولاني للتوسع شمال غرب سوريا

بعد الحادثة، لجأ ذوو الضحايا من عائلة “بيشمرك” إلى القضاء التابع للحكومة السورية المؤقتة في عفرين، ولكن رغم مرور نحو ستة أشهر على الحادثة ما زالت القضية مفتوحة، والعائلة تتعرض لضغوطات مستمرة من الفصيل الذي يتبع له الجناة، كما قال مصدر مقرب من العائلة لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية.

أين وصلت القضية؟

في ليلة النار، التي أخمد فرحتها عناصر جيش الشرقية، لقي ثلاثة أشقاء وابن أحدهم حتفهم برصاص “مباشر”، وهم: محمد محمد عثمان، 38 عاماً، نظمي محمد عثمان، 53 عاماً، فرح الدين محمد عثمان، 45 عاماً، ونجله محمد فرح الدين، 19 عاماً، وأصيب آخران بجروح، أحدهما من ذوي الاحتياجات الخاصة. اتهمت وسائل إعلام مناهضة للجيش الوطني الجناة بتعمد القتل، لأن إطلاق النار لم يكن رشاً، وإنما طلقة طلقة.

حمّل نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش، آدم كوغل، تركيا مسؤولية الانتهاكات المرتكبة على يد الفصائل المدعومة منها، لأنها “سمحت لهؤلاء المقاتلين بالاعتداء على الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرتها دون عقاب، وهذا يعرضها للتواطؤ في هذه الانتهاكات”.

وفي أعقاب الحادثة، أعلنت إدارة الشرطة العسكرية، التابعة للجيش الوطني، “اعتقال المهاجمين الثلاثة المزعومين، ونفت فصائلها أي ارتباط بهم”، بحسب تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، الذي نشر في 23 آذار/ مارس الماضي.

تجري محاكمة المتهمين في محكمة بمدينة الراعي في ريف حلب الشمالي، أي على بعد 90 كيلومتراً من مكان إقامة ذوي الضحايا، الذين يكابدون عناء السفر لمدة خمسة ساعات ذهاباً وإياباً في كل جلسة للمحكمة، بحسب المصدر المقرب من العائلة، مشيراً إلى حضورهم أربع جلسات حتى الآن “لم يتم احترام مشاعر ذوي الضحايا فيها، ومنعوا من التوجه بأي كلام للمجرمين” بحسب قوله.

ومن الانتهاكات التي وقعت بحق ذوي الضحايا “الاستماع إلى شهادات أطفالهم دون السماح لأهاليهم بالتدخل”، وفقاً للمصدر، الذي قال أن “القاضي استجوب الطفل لمدة 45 دقيقة بشكل متواصل، ومارس الضغط عليه”.

“في الجلسات الأربع رفض المتهمون الاعتراف بجريمتهم والإقرار بصحة رواية عائلة ذوي الضحايا” باستثناء واحد منهم “زعم أنه أصاب أحد الضحايا بطلقة في قدمه، بينما الحقيقة أن الإصابات كانت في منطقة الصدر والبطن عند كل الضحايا”، بحسب المصدر، موضحاً أنه “حتى الآن لم تصدر المحكمة أي حكماً بالقضية”.

تهديدات تطال ذوي الضحايا

منذ بدء التحقيق في القضية، يوجه مسلحو جيش الشرقية تهديدات للعائلة الكردية المنكوبة، لحثها على التنازل عن القضية وقبول الصلح، وتُرجمت هذه التهديدات لأفعال أكثر مرة.

في 23 تموز/ يوليو، اعتدت مجموعة ملثمة، على شاب من أفراد عائلة “ضحايا النوروز”، عندما داهمت صالون الحلاقة الذي يعمل به في ناحية جنديرس، وانهالت عليه بالضرب، ما أدى إلى إصابته، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومقره لندن.

تعليقاً على الحادثة، ذكرت صفحات مناهضة للجيش الوطني أن الشاب نظمي أشرف عثمان، تعرض للاعتداء من قبل مسلحي جيش الشرقية، الذين حاولوا دهسه بسيارتهم بعد ضربه، وكانوا يصرخون: “نحن الشرقية، وهذا هو الثمن”، ولم تستطع “سوريا على طول” التأكد من صحة الرواية من مصدر مستقل.

وفي 26 آب/ أغسطس الماضي، تعرض الشاب لاعتداء ثانٍ من قبل مجموعة مسلحة الشرقية، بهدف “الضغط على العائلة لإسقاط الدعوى المقدمة بحق مسلحي جيش الشرقية”. 

وفي هذا السياق، قال المصدر المقرب من عائلة “بيشمرك” أن “المسلحين يحيطون بالعائلة في جنديرس، حيث يقيم آخر أشقاء الضحايا”، وهو والد الشاب نظمي الذي تعرض للاعتداء، وبحسب المصدر “بعد عودة العائلة من إحدى جلسات المحكمة في مدينة الراعي وصلتهم تهديدات من المسلحين، توعدوا فيها قتل شقيق الضحايا الأخير في حال لم يغادر جنديرس”.

لا يبدو أن قضية عيد النوروز ستنتهي لصالح عائلة الضحايا على حساب مسلحي جيش الشرقية، لذلك “قد يكون الحل الأنسب والأقل ضرراً على العائلة بالخروج من مناطق سيطرة الجيش الوطني في عفرين”، قال ولات علي (اسم مستعار)، سياسي كردي مقيم في مدينة عفرين لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن هويته لدواع أمنية.

نصح علي عائلة الضحايا بـ”الخروج من جنديرس وكامل عفرين، للنجاة من مصير مجهول ينتظرهم، لا سيما مع استمرار التهديدات، وعجز أي جهة عن تأمين قصاص عادل من القتلة، وحماية باقي أفراد العائلة”، وفقاً له.

المشكلة أكبر من اعتداء المسلحين على عائلة “بيشمرك”، لأن “هناك دولة تقف خلف المسلحين”، بحسب علي، في إشارة إلى الجانب التركي، متخوفاً من أن “العائلة ستدفع الثمن في حال صدر حكم لصالحهم ضد الجناة”.

غياب العدالة

تشهد مناطق سيطرة الجيش الوطني في ريف حلب الشمالي، بما في ذلك عفرين ذات الغالبية الكردية، انتهاكات مستمرة بحق سكانها الأصليين والنازحين إليها، بغض النظر عن قوميتهم، ومثال ذلك اغتيال الناشط محمد عبد اللطيف أبو غنوم، في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، على يد عناصر من فرقة الحمزة، المنضوية ضمن الجسم العسكري المدعوم من أنقرة.

ثبت تورط عناصر “الحمزات” في مقتل أبو غنوم، لكن القضية دُفنت من دون الإعلان عن محاكمة المجرمين، وهو ما يشير إلى “غياب العدالة”، لا سيما في عفرين منذ سيطرة الفصائل العسكرية عليها حتى الآن، كما قالت الناشطة الكردية لونجين عبدو لـ”سوريا على طول” من مكان إقامتها بفرنسا.

اعتقلت عبدو وشقيقتها ووالدها في حزيران/ يونيو 2018، على يد فصيل الحمزات، وهو نفس الفصيل المتورط باغتيال الناشط أبو غنوم، وأطلق سراحها في كانون الأول/ ديسمبر 2020. فرضت الولايات المتحدة عقوبات على فرقتي الحمزة (الحمزات) والسلطان سليمان شاه (العمشات)، في آب/ أغسطس الماضي، لارتكابهما انتهاكات خطيرة في المنطقة.

بعد الإفراج عنها، وصلت عبدو إلى فرنسا وأسست فيها “جمعية ليلون للضحايا في عفرين”، المعنية بالدفاع عن حقوق أهالي عفرين، معبرة عن استيائها من “غياب محاسبة المجرمين. حتى الآن لم نسمع محاكمة أي مجرم”.

“غياب العدالة في المنطقة يشجع المسلحين على ارتكاب جرائم أخرى بحق المدنيين”، قالت عبدو، مشيرة إلى أن “أكثر الجرائم التي تحصل تكون ضد المدنيين الكرد، وقلة قليلة بحق العرب”، على حد قولها، في إشارة إلى أن بعض الجرائم “تقوم على أساس عرقي وتستهدف السكان الأصليين للمنطقة”.

وبالعودة إلى قضية ضحايا “عيد النوروز”، قال المصدر المقرب من عائلة “بيشمرك” أن العائلة حاولت توكيل محامٍ كردي بالقضية، لكنه “لم يتجرأ على ذلك، ما اضطر العائلة إلى توكيل محامٍ عربي من مدينة الدانا بريف إدلب”.

وبعد ستة أشهر على القضية، يراود شعور لدى الرأي العام الكردي بأن المُحاكمة ليست ذات مصداقية وأن لا جدوى منها. 

وفي هذا السياق، شدد الحقوقي حسين نورلو نعسو، الذي ينحدر من عفرين، على ضرورة التركيز على “تاريخ تأسيس المحاكم في المناطق المحتلة، التي تم تشكيلها من قبل دولة الاحتلال التركي، إبان احتلالها لمنطقة عفرين، ومعظم قضاتها وكوادرها ينتمون إلى المستوطنين من ذوي وأقرباء الفصائل المرتزقة” على حد قوله.

وأضاف نعسو في حديثه لـ”سوريا على طول”: “لا توجد لهذه المحاكم سلطة فعلية على الفصائل المرتزقة، لأنها محاكم شكلية، لا يمكن أن تنفذ أحكامها على الفصائل، وبإمكان أي عنصر من عناصر الفصائل أن يأمر القضاة بفعل كذا أو الامتناع عن كذا”.

حادثة مقتل ضحايا “عيد النوروز” سُبقت بعشرات الجرائم، التي طالت مدنيين كرد من أهالي عفرين، بحسب نعسو، ومع ذلك “لم يصدر أي حكم قضائي حتى الآن في تلك القضايا، ومُعظمها دوّن ضد مجهول”، معتبراً أن مهمتها “فرض الغرامات الباهظة كبديل للإتاوات وأعمال السرقة، وأحكامها تطبق على المدنيين الكرد فقط، ولا تُطبق على المستوطنين [المهجرين]، لذلك لا يمكن أن تعقد الآمال عليها بإحقاق الحق والعدل”.

رداً على ذلك، نفى الحقوقي السوري ثائر حجازي، وهو ناشط حقوقي مهجر من الغوطة الشرقية ومقيم في فرنسا، أن يكون هناك تمييز بين العرب والكُرد أمام قضاء عفرين، مشيراً إلى أن “الحكومة التركية قامت بتقسيم التوليفة القضائية بين الأكراد والعرب، خاصة في محكمة عفرين، وهذا ما يستبعد وجود تلاعب أو تمييز ضد الأكراد”.

ومع ذلك، “هناك مُلاحقات وتجريم لبعض الأكراد بتهمة الانتماء للحزب [حزب الاتحاد الديمقراطي]، وهي تهمة شائعة في عفرين، تلصق بأي شخص كُردي يريدون الانتقام منه أو توريطه لسبب ما، قد يكون لرغبة من عناصر وقادة الميليشيات بمُصادرة بيته أو أرضه، بحيث يتم تحويله إلى المحكمة وإصدار حكم بحقه”، بحسب حجازي.

وصف نعسو محاكمة المتهمين بقضية “عيد النوروز” بأنها “حلقة من حلقات المسرحية، التي أعدها وأخرجها الاحتلال التركي بهدف التملص من مسؤولياته كدولة احتلال”، وأن أنقرة تحاول “أن تظهر للعالم وجود سلطة مدنية متحكمة على الأرض تعود للإدارة المدنية”.

وحيال إمكانية رفع العائلة الكردية دعوة أمام المحاكم الدولية، أشار نعسو إلى “وجود صعوبات جمة في تحريك الدعوى ضد المتهمين أمام القضاء الدولي، مُتعلقة بأصول المُحاكمات والإجراءات أمام تلك المحاكم، إذ إن لكل مُحكمة من المحاكم الدولية -سواء أكانت محكمة الجنايات الدولية أو محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في ستراسبورغ- أصول وإجراءات مُحددة، وشروط للتقاضي”.

عدا عن صعوبة تحقيق شروط اللجوء إلى القضاء الدولي، “هناك صعوبات مرتبطة بتوقيع الدول المتهمة، تركيا مثالاً، على ميثاق روما المُؤسس للمُحكمة الجنائية الدولية، ومنها ما هو مُرتبط بالادعاء مُسبقاً أمام المحاكم الوطنية التركية، واكتساب الحكم بالدرجة القطعية، وبعد ذلك يحق للمدعي أو المشتكي أو المتضرر، إقامة الدعوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية”، بحسب نعسو.

ومع تأكيده على أن جريمة عيد النوروز “تندرج ضمن سلسلة جرائم ممنهجة قام بها عناصر وقيادات الجيش الوطني”، فسّر الحقوقي السوري ثائر حجازي عدم إغلاق القضية حتى الآن بأن “إجراءات التقاضي في المحكمة العسكرية طويلة، وتأخذ وقتاً أطول من غيرها من المحاكمات”، مشيراً إلى أن “المحاكمات لدى القضاء العسكري تأخذ أحياناً عاماً كاملاً”.

ورداً على الدعوات المنادية بـ”إعدام الجناة”، قال حجازي لـ”سوريا على طول”: “حتى إن أصدر القضاء حكماً بالإعدام، لا يمكن تطبيق الحكم نظراً لأن القضاء في عفرين يتبع للحكومة السورية المؤقتة، أي لا يوجد رئيس جمهورية يوقع على الإعدامات”، مشيراً إلى عدم تنفيذ أي حكم إعدام في مناطق نفوذ الجيش الوطني في شمال غرب سوريا.

إذا كان القضاء لن ينصف ذوي الضحايا بحكم عادل، فهل يمكن للمنظومة القضائية والجهات المعنية في عفرين أن تضع حداً للانتهاكات بحق العائلة، وأن تمنع ارتكاب جريمة إضافية بحقهم، أم أن الحفاظ على حياتهم يكون بمغادرة عفرين؟!

شارك هذا المقال