8 دقائق قراءة

فنان جرافيتي أجبر على الرحيل من داريا: أينما حللنا سنحمل اسمها

على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، كان الرسام أبو مالك الشامي […]


1 أكتوبر 2016

على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، كان الرسام أبو مالك الشامي يعيش في داريا المحاصرة، جنوب دمشق، والقنابل ترسم الدمار فيرسم الحياة تحدياً؛ فترى ركام الأنقاض المائل بات مرسما له ومرايا تعكس ما بداخله من أمل وألم وشغف بالإبداع، وداريا المنكوبة معرضاً جميلاً للإنسانية التي يحملها.  

وكانت بعض رسومه تحكي وتحاور قضايا ومواضيع سياسية صارخة، وبعضها يزرع براعم الأمل ويترك خفايا رسائله  بين الأنقاض.

ولم يكن رسام الجرافيتي، الذي يبلغ من العمر 22 سنة، من مواليد داريا ودخلها فقط منذ ثلاثة سنوات ليقاتل مع الجيش السوري الحر. إذ أنها كانت من واحدة أوائل البلدات التي انتفضت في تاريخ الثورة السورية وطوقها النظام منذ عام 2012.

وفي الشهر الماضي، توصلت قوات النظام والمعارضة إلى اتفاقية هدنة، أخرجت المقاومة المسلحة في البلدة مقابل إنهاء حصار النظام الطويل. وكجزء من الإتفاقية اضطر الشامي أن يغادر داريا مع من تبقى من المدنيين والمقاتلين في البلدة.

واتجه الرسام شمالاً إلى إدلب الخاضعة لسيطرة الثوار مع غيره من المقاتلين وعوائلهم، في حين اتجه بعض المدنيين إلى مراكز إيواء حرجلة في ريف دمشق، الخاضعة لسيطرة النظام. وخرج الرسام تاركاً وراءه كل اللوحات الجدارية التي طال مكوثه ومحاكاته لها.

وذكر رسام الجرافيتي لـ فاطمة عاشور، مراسلة في سوريا على طول، “حين أجد إحدى الرسومات قد قصفت أشعر نفس ذلك الشعور بخبر استشهاد قريب”.

ولفت إلى أن “الحرب والحصار والجوع وتقدم الجيش والشهداء كلها كانت في كفة وأمر الخروج من داريا كان في كفة أخرى”.

وقبل رحيله عن داريا، تحدث الشامي لسوريا على طول عن لوحاته الجدارية، وهو الآن يصف المدينة اللوحة الأجمل التي غادرها وعلى جدرانها تنام رسوماته وأحاسيسه وفي ترابها وأحضانها يرقد أعز من رحلوا.

لوحاتنا هي أبناؤنا كيف رحلت دون لوحاتك؟ ولمن تركتها؟

اللوحات هي قطعة من عقلي وفكري وروحي، وهي جزء مني لا تتجزأ عني، هي جزء من إحساسي.

بصراحة رحلت عنها بشعور لا يوصف، كنت كل فترة بعد القصف أقوم بجولة للمناطق التي أستطيع الوصول إليها، واملؤها بالرسومات، فحين أجد إحدى الرسومات قد دمرت ببرميل أو صاروخ أحس نفس شعور خبر استشهاد قريب، وبنفس الوقت أحس أنّها تحد بيني وبين النظام، هو يتحداني ليدمر رسوماتي، وأنا مصر على أن ارسم.

الرسم هي اللغة التي يفهمها كل العالم على اختلاف جنسياتهم وأفكارهم.

تركتها بعد أن حفظتها في صور، الصور بالنسبة لي بالدرجة الأولى من الأهمية، لأنّني كنت أدرك أنّه في لحظة قد تسقط قذيفة تدمر الجدار، فكنت أتعجل لألتقط الصور بزوايا مختلفة، وكان لدي للرسمة الواحدة مايقارب العشرين صورة ومقطع فيديو بحيث يكون لدي ارشيف كامل للرسومات، ليدخل النظام وليعرف أنّنا  كنا نعيش الحياة التي يحاول أن يقتلها ويعدمها بشتى التصرفات. وأنّنا رغم ذلك كنا نرسم وننشد ونغني ونبتسم ونضحك ونصلي وندعو ونجتمع ونزور بعضنا الآخر، ولم نكن لنستسلم رغم الحرب والضغط النفسي والأجواء الصعبة.

تركت هذه الرسمات ليشهد التاريخ على صمود مدينة، وأنّنا نقلنا معاناة داريّا لكل العالم، هذه حجة على كل إنسان لم يقدم مساعدة بإنسانيته أو بمبدئه أو أفكاره أو حريته أو على مبدأ الدين إن كان ينتمي لدين أو توجّه ما.

عند أيّ لوحة طال مكوثك أكثر؟ أكانت لوحة أم قبر صديقك الذي استشهد؟

الرسومات الجدارية التي استوقفتني هي لوحة تتحدث عن قصتي، الحياة التي أنا رسمتها وهي اللوحة الثالثة التي رسمتها في داريّا أمام مقبرة الشهداء، وعنوانها قصة نضال تتكلم عن صديقين كانا يلعبان معاً، تعلما وكبرا معاً، جاهدا وقاتلا معاً، استشهد أحدهما، والثاني أكمل الدرب حتى استشهد. استوقفتني هذه اللوحة لأنّ الجزء الأخير من الحكاية، ماكنت أنتظره وأتمناه، كنت أتمنى أن أدفن أمام قبر رفيقي الشهيد الذي خرجت معه، والذي كان أكثر من أخ بالنسبة لي، ودرسنا وتعلمنا، وخرجنا بالثورة ثم استشهد، واستشهاده لم يجعلني أبتعد عن الثورة أو أنكسر أو أتراجع ما بدأناه.

الرسمة كنت قد رسمتها قبل دخولي إلى داريا، استشهد قبل ذلك، كنت قد رسمتها على الورق، وفي داريّا رسمتها جدارية، وكانت تعني قصة كل شهيد في داريّا؛ فهي تحكي قصتي وقصة كل شخص في مدينتي داريا.

الجدارية التي “تحكي قصتي”. حقوق نشر الصورة لأبو مالك الشامي

كيف جمعت بين كونك مقاتل يحمل ريشة وبندقية في آن واحد؟

مثلما قلت لك من قبل: إن ّ الرسم  هوايتي منذ الصغر، كانت تأخذ من وقتي واهتمامي الكثير، أمّا القتال وحمل السلاح فكان واجباً علي حمله بعد انخراطي كلياً في الثورة التي أصبحت هي حياتي.

والرابط بينهما هو الثورة بحدّ ذاتها، فهي ثورة فكر.

فالفن سلاح ذو فعالية وتأثير ومدى لا يقل فعالية وأهمية عن الأسلحة الحقيقية في الحرب التي نخوضها.

حدثني عن تفاصيل رحيلك من داريا؟

رحيلي عن داريا أو رحيل جميع من في داريا عنها، كان لا يوصف صراحة، كان أصعب أمر وأصعب شعور يمر علينا منذ أربع سنين.

كنا ندرك أنه من الممكن أن نصل إلى هذه المرحلة، الخروج من المدينة، لكن الصدمة الكبيرة كانت كيف حصلت بهذه السرعة.

في اليوم الأول من خروجنا كنت أوثّق هذه اللحظات، كانت وجوه الناس لا توصف، شباب وأطفال، نساء وشيوخ كلما سألتهم ما قولك لداريا؟ وماهو شعورك بهذه الساعة وفي هذا اليوم تحديداَ؟، كانت دموعه التي تجيب صراحة وعيونه التي تحكي.

في اليوم الثاني قمنا ببعض الإجراءات تحسباً من غدر النظام، فقام مسؤولي الخدمات بردم المقبرة حتى تتغير معالمها، وتصبح مقبرة الشهداء مكاناً، مجهولاً. وردمت بالتراب باستخدام الجرافة والمجنزرات، وكان ذلك صعباً علينا للغاية.

آخر يوم من أيام الرحيل كان الأصعب بالنسبة لي، آخر ليلة كنت أستنشق فيها هواء داريا، واطيل النظر الى جبل قاسيون الذي كان يعني لي انني قريب من بيتي واهلي واخوتي في كفرسوسة في دمشق وليسوا بعيدين عني.

خرجت أنا في الدفعة الثانية، وطيلة الأيام الثلاثة السابقة لم ننم، ولم نعرف للراحة سبيلاً، وفي آخر صباح بدأت الأهالي تحرق بيوتها، أنا كنت من المسلحين فارتديت بدلتي وجعبتي وحملت بارودتي ومسدسي وذهبت إلى هناك، وكان مندوب الأمم المتحدة موجوداً والهلال الأحمر.

ركبنا في الباصات وفق توزيعات اللجنة التي تفاوضت مع النظام، كانت الحواجز موجودة بعد نقاطها المعتادة، طالبوا بالتفتيش لمنع وجود مواد متفجرة وعبوات ناسفة. ولم يسمح لنا سوى بقطعة سلاح فردية واحدة.

وحين انطلقنا من حاجز الصبارة على أوتستراد المزة، مع مرافقة من سيارات الامم المتحدة، رفعنا سلاحنا وصرنا نهتف وسط المزة بالحرية وبالعودة و”هون داريا” ورفعنا إشارات النصر.

وصلنا إلى وجهتنا الساعة الخامسة والنصف، وكان جميع الأهالي بانتظارنا بالتهليل والترحيب.

هل فعلاً أحرقت الناس ممتلكاتها قبل أن تخرج من داريا حتى لا يحتلها غيرهم؟

أهالي داريا أحرقوا منازلهم وذكرياتهم وجميع ما يملكون من أشياء تركوها خلفهم ولم يستطيعوا أن يأخذوها معهم حتى لا يدعوا للنظام أي شيء يعبث به، لأنهم عاشوا أحداث المجزرة في 2011، وشهدوا التنكيل ودخول الشبيحة إلى منازلهم والعبث بها وخصوصياتهم وانتهاك حرمات البيوت، ومايزال لذلك الأثر الكبير في قلوب الأهالي. ولحقد النظام على الأهالي والمدينة فسيبحث عن أي طريقة لأجل الانتقام والتشفي منهم، فكان الجميع يريد أن يحرق كل شيء من صور وذكريات وكتب، كل ماله خصوصية عند الأهالي أتلفوه وأحرقوه.

بصراحة ألم يراودك فكرة أن تطلق الرصاص على من يرافقونكم من الأمن؟

لا أبداً. أنا سلاحي وضعت في فوهته ريشة حتى يرى العالم أنّ هدفنا ليس القتل رغم أنّهم أعداؤنا، هم الصف المقابل، هم من لديهم الحقد، ونحن حملنا السلاح لندافع عن حقنا وحريتنا وشهدائنا وعن كرامتنا وأرضنا ومقدساتنا. هذا حق لنا أن ندافع عنه. ولسنا نحن أبداً من يغدر بالعهد والمواثيق والاتفاقيات. والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا ألّا نغدر.

حدثني عن رفاقك في الباص؟ كانوا ينادون “وهي داريا” فهل كان المعنى حيثما حللتم فهذه داريا وأن المنطقة ستزهر ثورة وصموداً؟

بمجرد خروجنا بأسلحتنا طلبنا أن نهتف بمظاهرة في الباص لنغيظ النظام في قلب العاصمة، فكان أول هتاف خرج عفويا “هي داريا ها ها!” وكان أهالي داريا قبل خروجهم يقصدونها حرفياً أي أنّ داريا حيث خرجوا وليس في الحجارة وليس في المنطقة، نعم هناك شهداء يزيدون داريا  قداسة، ولكن داريا الثورة هي في قلوب شبابها وفي قلوب رجالها وفي قلوب أطفالها، ستبقى داريا تؤرقنا ونفكر بها حتى نعود اليها باذن الله فاتحين محررين. كانوا يغنوها بكل معانيها أن هذه داريا.

صورت مقابلة مع عجوز، الشيب يأكل رأسه كله والتجاعيد تحكي تفاصيل تعبه في هذه الحياة، سألته كم مرة خرجت من داريا؟ فقال عمري 71 سنة وهذه المرة الأولى التي أخرج منها ولم نخرج منها سوى مكرهين وبإذن الله أينما ذهبنا سنحمل اسم داريا حتى نعيده لها.

والآن، ماهي اللوحة التي تحملها إلينا وللعالم؟

هذه اللوحة هي أول لوحة رسمتها بالألوان الزيتية على قماش، والتجربة الأولى لي في الرسم على الكمفورت كلوحات محمولة، وكانت فكرة مشجعة لعمل معرض في المدينة مع رسمات اخرى، كنت أحاول التدرب لأضاعف خبرتي في الرسم وأصور من داخلي ما يحمل الأمل والجمال، والأفكار الجديدة، ولا سيما من داريا المحاصرة، لأمنح للناس شيئاً عن الاستمرار وعدم اليأس وعدم القعود؛ فكانت الرسمة الوحيدة التي أستطيع رسمها والباقي جداريات، وهناك الكثير من الرسومات على الدفاتر.

وهل نسمي لوحتك الطريق إلى الحرية؟

هذه اللوحة حتى الآن لم أطلق عليها أي اسم. كانت هي تجربتي الأولى في الرسم على القماش المعدّ للرسم، كانت بداية لمشروع معرض كنت أودّ القيام به في داريا المحاصرة.

كانت هي تجربة للتعلم على هذا النوع الجديد من الرسم الذي لم أخض فيه من قبل؛ فأخرجت كل ما بداخلي حتى كونت هذه اللوحة. كنت كل يوم أثناء رسمها أعيش مشاعر مختلفة بين الأمل بالنصر وبين الحزن من الحرب وقوة الصمود والاستمرار على الصمود.

كانت خليطاً متكاملا من المشاعر أخرجته حتى اكتملت معالم هذه اللوحة.

الاسم حتى الآن لم أعتمد عليه. لكنني أميل إلى اسم وهو “الطريق إلى شمس الحرية”.

“الطريق إلى شمس الحرية”. حقوق نشر الصورة لأبو مالك الشامي

وكيف كان استقبال إدلب وهل يعلمون بأنك رسام داريا؟

بالنسبة لاستقبالنا في إدلب، بصراحة كان استقبال الأهالي لا يوصف. فيه شيء كبير من المحبة، وكان هناك مشاعر مختلفة، وحاولوا أن يعبروا عن فرحهم بإطلاق النار، وكان هذا الأمر بالنسبة لنا، وبصراحة، مزعجا ومحزنا بأنفسنا، ولم نبده لهم. لأنَ الذخيرة التي اطلقوها لو كان عندنا ربعها لما خرجنا من داريا. ولكن فرحة الناس ومحبتهم باستقبالنا كانت بصراحة لا توصف. وكأن أخا يلتقي بأخيه وحبيباً يلتقي بمحبوبه. شعور رائع. المشهد كان يتكلم أكثر من المشاعر، الحمدلله لم نشعر أبداً بالغربة، كل الناس فتحوا لنا بيوتهم.

بعض الناس كانوا يعرفونني من قبل وتواصلوا معي بشكل مباشر. وهناك أناس طلبوا مني أن أرسم على جدران مدنهم، وهم جاهزون لأيّ خدمة وأنا متحمس للعمل معهم.

إقامتك حالياً في إدلب؟ هل تشعر بالاستقرار؟ ماهي مشاريعك الحالية؟

نعم أنا الآن في ادلب الخضراء المحررة حتى الآن لم أستقرّ بشكل فعليّ لسببين وهما:

الصدمة بالواقع في الشمال المحرر والعيش هنا، الصدمة بالمساحات الشاسعة والأسلحة الكثيرة والأعداد الهائلة والحياة الروتينية الأكثر من الطبيعية والتي نسيناها منذ أربع سنين.

اكتظاظ الناس في المناطق الآمنة من القصف، وعدم معرفة المصير في حالة الانضمام أو إعادة الهيكلة ضمن الألوية والتشكيلات والمؤسسات.

أحاول استقراء الواقع بهدوء وتجميع أفكاري. وضمن مشاريعي التشارك مع فنانين في الشمال، والعمل بشكل جماعي والاستمرار بالعمل باسم داريا.

اتفقت مع صديقي بشير جمال الدين أحد ثوار داريا وأبطالها، وهو طالب جامعي في الأدب العربي له قوته في شعره وكلامه،على أن يكتب شعرًا يوافق الرسمة بمعانيها، يصفها ويتكلم بلسانها، وأنا أضع الصورة فننشر بقوة الشعر والرسم.

 

شارك هذا المقال