7 دقائق قراءة

“لا أريد جثته”: عائلة لاجئ سوري قضى تحت التعذيب في لبنان تخوض معركة العدالة

تكافح عائلة بشار عبد السعود ، وهو لاجئ سوري توفي أثناء احتجازه لدى أمن الدولة اللبناني في 30 آب/أغسطس الماضي، من أجل المساءلة وتحقيق العدالة في مناخ يسود "الإفلات من العقاب".


8 سبتمبر 2022

شاتيلا- في 30 آب/ أغسطس، كانت حمدة السعيد تتناول العشاء مع زوجها بشار عبد السعود، 30 عاماً، وأطفالهما الثلاثة في منزلهم المكون من غرفة واحدة بمخيم شاتيلا للاجئين في لبنان، عندما داهم عناصر من قوات الأمن المكان واعتقلوا زوجها، وسلموه لأمن الدولة اللبناني.

استيقظت حمدة في صباح اليوم التالي لتجد نفسها أرملة، إذ علمت بنبأ وفاة زوجها من صفحات “الفيسبوك”، التي نشرت صور جثة بشار المليئة بالكدمات، وبعد أربعة أيام من اعتقاله، اتصل أمن الدولة بعائلته طالباً منهم الحضور لاستلام الجثة.

وفي اليوم نفسه، قال مصدر قضائي لبناني لوكالة “فرانس برس” إن بشار أصيب بنوبة قلبية بعد ثلاث ساعات من اعتقاله، غير أن فيديو الجثة، الذي قدمه محامي العائلة لـ”سوريا على طول” يظهر إصابات بليغة على جسده، وتملأ الكدمات والجروح العميقة الجزء الخلفي من جسده كاملاً، من رأسه حتى أخمص قدميه.

منذ سنين طويلة، تستخدم الأفرع الأمنية اللبنانية صنوف التعذيب لانتزاع الاعترافات من الموقوفين، لاسيما في قضايا المخدرات أو الإرهاب، بحسب توثيقات منظمات حقوق الإنسان. في عام 2010، صادق لبنان على البروتوكول الاختياري لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، ليكون بذلك أول بلد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يصادق عليه، وفي عام 2017 أقرّ البرلمان قانون مناهضة التعذيب (65/ 2017). ومع ذلك، ما يزال التعذيب، وفق سرد الناجين والمحامين والمناصرين لحقوق الإنسان، واقعاً يكابده المحتجزون في المراكز اللبنانية، في ظل واقعٍ يسوده الإفلات من العقاب والمساءلة.

وضع اللاجئين السوريين غير المستقر والهش في لبنان يجعلهم من أكثر الفئات عرضة لسوء المعاملة، في حال احتجازهم أو وقوعهم بيد السلطات اللبنانية. وفاة بشار أثناء احتجازه تجسّد ذلك، وتلقي الضوء على استمرار قوات الأمن اللبنانية بممارسات التعذيب.

“مجرد سؤالين وسنعيده”

أثناء زيارة “سوريا على طول” لعائلة بشار، الأسبوع الماضي، كانت حمدة، 29 عاماً، تجلس وبين ذراعيها طفلها، ذو الشهر الواحد، بينما أشعل باسل، شقيق زوجها، ضوء هاتفه لإنارة الغرفة الموجودة في زقاق مظلم داخل مخيم شاتيلا.

انتقل بشار إلى شاتيلا، قبل ثماني سنوات، عندما انشق عن جيش النظام السوري وهرب من مسقط رأسه في دير الزور، شرقي سوريا، إلى لبنان. وعمل في بيروت حمّالاً وعامل مياومة، فيما بقيت حمدة في دير الزور، لكنها كانت تتردد لزيارة زوجها في المخيم.

في أوائل عام 2021، استقرت حمدة وابنيهما، البالغين سبعة وتسعة أعوام، مع زوجها في لبنان، وفي حزيران/ يوليو الماضي، رُزقت العائلة بطفلها الثالث.

في الساعة الثامنة من مساء يوم 30 آب/ أغسطس، داهم عناصر من اللجنة الأمنية الفلسطينية الموجودة داخل مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين بلبنان، منزل العائلة في شاتيلا واقتادوا بشار، لكنهم “لم يبلغونا بأي شيء، قالوا مجرد سؤالين وسيعود!”، كما أوضحت حمدة لـ”سوريا على طول”.

تعهّد محمد صبلوح، محامي لبناني متخصص في قضايا التعذيب، ومدير مركز حقوق السجين في نقابة المحامين بطرابلس، بمتابعة قضية بشار مع عائلته بعد وفاته، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول” إلى أن “الأمن الفلسطيني أحضره بطلبٍ من أمن الدولة دون أي مذكرة اعتقال، وتم تقييده من يديه وتجريده من ملابسه أمام الناس في الشارع”.

علمت العائلة من خلال التقارير الإخبارية المتداولة، بأنّ بشار اقتيد إلى مقر أمن الدولة، في جنوب لبنان، كما علمت بنبأ وفاته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ بحسب شقيقه باسل: “أخذوه يوم الثلاثاء، وفي الأربعاء كان ميتاً. لم يكن يعاني من أي مرض في القلب، ولا يشكو من أي شيء أصلاً”، وأضاف: “ما حدث واضح تماماً. مات تحت التعذيب”.

يُشير تقرير طبي صادر في 4 أيلول/ سبتمبر، حصلت “سوريا على طول” على نسخة منه، استلام مستشفى تبنين الواقع بالقرب من مقر أمن الدولة، في جنوب لبنان، جثمان بشار، في 31 آب/ أغسطس، “بناء على طلب فصيلة الدرك في تبنين”، ووضعه في ثلاجة الموتى.

صورة التقرير الطبي الصادر عن مستشفى تبنين في جنوب لبنان، 04/ 09/ 2022 (سوريا على طول)

أخذت العائلة بنصيحة محاميها ورفضت استلام جثمان بشار إلى أن يتم إجراء فحص طبي شرعي مستقل يشرح سبب وفاته وطبيعة جروحه.

“أنت تعتقله وتقتله ومن ثم تبلغني الحضور لاستلام جثته؟. لا أريد جثته، أريد أن يتم تشريحها، أريد أن أعلم من اعتقله، ومن قتله، ومن أعطى اسمه للأجهزة الأمنية”، قالت حمدة. وأضاف صبلوح “علامات التعذيب واضحة جداً، ونحن الآن بانتظار تقرير طبي مستقل”.

زوبعة من الاتهامات

باسل عبد السعود يعرض عبر هاتفه صورة شقيقه الراحل بشار، من مكان إقامته في مخيم شاتيلا للاجئين، 06/ 09/ 2022، (أليثيا مدينا /سوريا على طول)

بعد انتشار صورة بشار جثةً هامدةً على وسائل التواصل الاجتماعي، مطلع الشهر الحالي، أصدر أمن الدولة بياناً يتهم فيه بشار بتزوير ورقة نقدية، فئة 50 دولاراً، إضافة إلى تهمة الانتماء إلى تنظيم “داعش”. هذه الاتهامات عارية عن الصحة جملةً وتفصيلاً، بحسب المحامي صلبوح، معتبراً أنهم “يحاولون التغطية على جريمتهم لا أكثر”.

وتؤكد عائلة بشار براءته من كل التهم الموجهة إليه، مشددة على أن أنهم “يلصقون التهم به لتبرئة أنفسهم. في كل ساعة يختلقون تهمة جديدة: تزوير عملة، متورط في تجارة الحشيش، وأنه كان يشرب شيئاً واستفزّ أعصاب الضابط، وصولاً إلى أنه داعشي”، وفق حمدة، لكنهم في الحقيقة “اعتقلوه وأهانوه وقتلوه، والآن يحاولون تبرئة أنفسهم”، كما قالت.

عائلة بشار مدينة بمبلغ بمبلغ 20 مليون ليرة لبنانية (568 دولاراً أميركيا بحسب سعر الصرف في السوق الموازية)، موزعة على: فواتير الكهرباء، والبقالة، وحليب الأطفال، فإن “كان يزور الدولارات فعلاً، لم علينا مثل هذه الديون؟!”، تساءلت حميدة.

بصرف النظر عن التهم التي كانت وراء احتجاز بشار، يبقى التعذيب بحد ذاته جريمة ضد الإنسانية، وفقاً للقانون الدولي، ويُحظر بموجب القانون المحلي اللبناني والمعاهدات الدولية التي تعهد البلد بالالتزام بها.

“رأيت في الصور آثار التعذيب عليه. لن ننسى حقوقه؛ نريد مساءلتهم”، قال باسل، الذي ما يزال مع حمدة يعيشا تحت وقع صدمة موت بشار المفاجئ. أضافت حمدة: “سأحارب لأجل حقوق زوجي”.

المعركة القانونية المقبلة

تتعارض ظروف احتجاز بشار عبد السعود مع المادة 47 من قانون “أصول المحاكمات الجزائية” اللبناني والقانون 65، إذ “لم يسمحوا له بتوكيل محامٍ، ولم يبلغوا عائلته بمكان [احتجازه] ولم يُتح له إمكانية التواصل مع عائلته”، كما أوضح المحامي صبلوح، الذي تقدم بشكوى حيال هذه الانتهاكات إلى النائب العام اللبناني. 

أحيلت قضية التحقيق في وفاة بشار إلى المحكمة العسكرية، كون الجرائم التي يرتكبها عناصر الأمن في تقع في نطاق اختصاص نظام القضاء العسكري اللبناني، ولكن “حينما ترتكب هذه الجرائم ضمن نطاق عملهم بصفتهم شرطة قضائية، أي خلال إجرائهم لتحقيق في قضية قضائية، تُحال الجرائم المرتكبة في مثل هذه الظروف إلى المحكمة النظامية”، وفق ما أوضحت المحامية غيداء فرنجية، الباحثة في المفكرة القانونية، وهي منظمة بحثية ومناصرة لحقوق الإنسان.

ينبغي النظر في قضية بشار أمام محكمة نظامية، بموجب المادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية والقانون 65. ويعتزم المحامي صبلوح تقديم شكوى أمام النائب العام من أجل إحالة القضية إلى قاضٍ مدني.

وطالبت منظمة العفو الدولية بإحالة القضية إلى محكمة مدنية لضمان الشفافية والحياد، إذ إن الفارق الرئيس بين المحكمة العسكرية والمحكمة النظامية هو أنّه في الأولى “لا يتسنى للضحايا المشاركة في التحقيق ويُعاملون بصفتهم شهود ليس إلا”، بحسب فرنجية.

في 3 أيلول/ سبتمبر، اعتقلت النيابة العسكرية اللبنانية خمسة من ضباط أمن الدولة للتحقيق معهم بشأن وفاة بشار عبد السعود، غير أنّ صبلوح استنكر هذه الخطوة ورأى فيها احتيالاً على صعيد الرأي العام، إذ سبق أن “اختبرنا حادثة سابقة في قضية [تعذيب] مماثلة، حينما احتُجِزوا فيها لعشرة أيام لا غير، ومن ثم أُطلِق سراحهم ببساطة”، كما قال.

ولا يثق صبلوح كثيراً بالمحاكم العسكرية، محذراً من أنه سيرفع القضية “إلى مستويات أوروبية ودولية، إذا لم نرَ محاكمة عادلة تتجلى فيها الحقيقة والعدالة لهذه الضحية”.

لم يسبق أن أدين أو حكم على أي مسؤول أمني بموجب التشريعات القانونية، رغم وجود العديد من التقارير الموثقّة عن قضايا التعذيب في لبنان منذ تمرير قانون مناهضة التعذيب رقم 65، في عام 2017، وهو العام الذي تعرض فيه الممثل اللبناني زياد عيتاني للتعذيب، حيث تقدم بشكوى ضد أمن الدولة، لكن لم يُبت في قضيته إلى الآن.

كما أن “أولئك الضباط الذين عذّبوا زياد عيتاني لم يفلتوا من العقاب وحسب وإنما تم ترقيتهم “، بحسب المحامية فرنجية، مشيرة إلى أن “الحصانة من العقاب تَقتُل، لأنه فيما لو تحمل هؤلاء الضباط وزر جرائم تعذيبهم لزياد عيتاني، لكانوا قد تعلموا الدرس وتحاشوا هذا الفعل ثانيةً”.  

ومن جهتها، قالت هبة مرايف، المديرة الإقليمية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية “إن الإفلات من عقاب جرائم التعذيب ما زال سائداً”، مشيرة إلى أن “عشرات القضايا الخاصة بالتعذيب وقضايا سوء المعاملة المقدمة إلى المحكمة، بموجب قانون مناهضة التعذيب لعام 2017 أقفلت جميعها من دون إجراء تحقيقاتٍ فعّالة”.  

بما أنّ تشريعات مناهضة التعذيب “ما تزال بمجملها حبراً على ورق، فهي تُشجّع على ارتكاب المزيد من ممارسات التعذيب التي تفضي إلى الموت”، وفقاً لفرنجية.

على مدى العقد الماضي، لم يُعاقب في لبنان أي مسؤول في القضايا الخمسة -المعروفة للعامة- حيال موت الضحايا قيد الاحتجاز رغم الاشتباه في تعرضهم للتعذيب. في عام 2019، توفي الموقوف اللبناني حسان الضيقة أثناء احتجازه على يد قوى الأمن الداخلي. في عام 2017، توفي أربعة سوريين أثناء احتجازهم في عرسال. وكذلك في عام 2013، توفي نادر البيومي من صيدا في مركز احتجاز عسكري، وقضية بشار هي السادسة. 

ويرى المحامي صبلوح أن قوات الأمن اللبنانية ليست وحدها المسؤولة عن ارتكاب جرائم التعذيب فحسب، بل تتعداها لتشمل نظام القضاء في البلاد أيضاً، “القضاء هو الذي يتحمل مسؤولية التعذيب في لبنان، لأنه لم يؤدِ ما هو مناط به منذ سنوات، وكذلك يتحمل [مكتب] النائب العام مسؤولية أكبر لأنه يسمح، عن قصد أو غير قصد، بتملص مرتكبي جرائم التعذيب من العقاب”، وفق قوله.

وأضاف صبلوح “لو أنّ هناك محاسبة حقيقية على جرائم التعذيب، لما تجرأ هؤلاء الضباط على قتل بشار عبد السعود”.

تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية سلام الأمين

شارك هذا المقال