7 دقائق قراءة

استهداف النساء العاملات في الشأن العام: سوريات بين مواجهة الابتزاز والخوف من المجتمع

عزوف النساء عن البوح بحوادث الابتزاز والتهديد سببه "أن المرأة تخاف من الشخص مصدر التهديد، ومن المجتمع، بما في ذلك أهلها". "بعض الأهالي يعتبرون أن المشكلة بابنتهم حتى إن تقدمت بشكوى".


29 يونيو 2022

إدلب- بعد ستة أشهر من محاولات الابتزاز بـ”التهديد وتشويه السمعة أو دفع المال”، تمكنت حلا الزين (اسم مستعار)، 46 عاماً، من معرفة مصدر التهديد، بمساعدة إحدى المنظمات التي تعنى بالسلامة الرقمية، ومع أنها لم ترضخ لمطالبه إلا أنها اضطرت إلى ترك نشاطها النسوي الذي بدأته منذ عام 2013.

في أيار/ مايو 2017، أي بعد شهر على نزوحها من ريف دمشق الغربي إلى محافظة إدلب شمال غرب سوريا، سجّل شخص شريطاً مصوراً لحلا أثناء لقائها بأحد أقاربها، في أحد شوارع إدلب الرئيسية، وأرسل الفيديو إلى زوجها “مع كلمات نابية، وهددنا بالنشر على العام وتلفيق تهم بالسرقة والخيانة إذا لم نرسل له المال”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

حاولت حلا وزوجها التعامل مع التهديد بـ”حظر الشخص، لكنه كان يعاود التواصل من رقم جديد”، إلى أن استعانت بفريق “سلامتك”، الذي يوفر الدعم والمساعدة للسوريين في قضايا التهديدات الرقمية، وبعد “تواصل التقني في المنظمة مع مصدر التهديد، أحسّ الأخير بالخطر وتوقف خشية الإمساك به”، وفقاً لحلا، التي عملت مع منظمات نسوية ، وهي معتقلة سابقة في سجون النظام السوري. 

محاولات الابتزاز والتهديد من أكثر المعوقات التي تواجه النساء العاملات في الشأن العام ومنظمات المجتمع المدني في سوريا، وتدفعهنّ إلى الحدّ من نشاطهنّ، إذ “كثيراً ما نضطر إلى التوقف عن العمل بسبب التهديدات”، وفقاً للناشطة الحقوقية نور الخطيب، مسؤولة توثيق الانتهاكات الواقعة على المرأة في الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

وقالت الخطيب في حديثها لـ”سوريا على طول” أن التهديد “يستهدفنا كنساء بشكل شخصي ويستهدف عائلاتنا”، وهو ما “يحدّ من ممارستنا لحرية الرأي والتعبير ويمنعنا في بعض الأحيان من النشر على صفحاتنا الشخصية”.

وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في الفترة بين آذار/ مارس 2021 وآذار/ مارس 2022 ما لا يقل عن 35 حادثة تهديد وترهيب للنساء الناشطات أو العاملات أو للمراكز المختصة بالمرأة على خلفية أنشطتهنّ في سوريا. 

أرقام الشبكة السورية لا تعكس حجم التهديدات التي تتعرض لها النساء في مختلف مناطق السيطرة في سوريا، نظراً لتكتم بعض الضحايا عن توثيق قصصهنّ خشية التداعيات الأمنية والمجتمعية، يؤكد ذلك ما قالته صفاء كريدي، مسؤولة مرجعية (Focal point) في برامج منع الاستغلال والاعتداء الجنسيين للعمّال الإنسانيين (PSEA)، والناشطة في قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي، مشيرة إلى أن 400 امرأة تراجعها سنوياً، في مناطق شمال غرب سوريا،على خلفية حالات التحرش والابتزاز.

ابتزاز بقوة السلطة!

في 30 نيسان/ أبريل الماضي، كشفت الناشطة منى فريج عن سبب خروجها الأخير من محافظة الرقة شمال شرق سوريا، الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، متهمة عنصراً من “سلطات الأمر الواقع” بمحاولة استخدام سلطته لاستغلالها “عبر طلب علاقة” أو يدبّر لها “مكيدة لدى السلطات ويتهمني بالخيانة والعمالة”، كما نشرت على حسابها الشخصي على فيسبوك.  

ورغم أنها أبلغت الجهات المختصة في المنطقة إلا أن ذلك “لم يكن مجدياً حيث لا رقابة ولا أمان”، عدا عن أن محاولات الابتزاز والتهديد استمرت “بالتصاعد”. حاولت “سوريا على طول” التواصل مع فريج للوقوف على تفاصيل الحادثة لكنها اعتذرت عن التصريح لأسباب خاصة.

وفي قصة مشابهة، روت ميساء المحمود، إحدى المدافعات عن حقوق المرأة في مناطق ريف حلب الشمالي، التابعة لسيطرة الجيش الوطني المدعوم من تركيا، قصة إحدى صديقاتها، التي تعمل معلقة صوتية في وكالة إعلامية، حيث “تعرضت لمضايقات من زميلها في العمل، وهو ابن أحد القيادات العسكرية في المنطقة، بعد أن رفضت إقامة علاقة معه”، كما قالت ميساء لـ”سوريا على طول”.

وقعت الحادثة في أواخر عام 2021، وتلقت صديقة ميساء، التي تعاني من مرض مزمن، تهديداً من الشخص بـ”فصلها من عملها في حال رفضت طلبه، وفعلاً أجبرت على ترك عملها”، بحسب ميساء.

حاولت ميساء إيجاد فرصة بديلة لصديقتها في وكالة إعلامية أخرى، ولكن فوجئت “بوجود تعليمات من مدير البرامج بمنع صديقتها من العمل في المؤسسة وفي أي مؤسسة أخرى نظراً لوجود تعميم على اسمها”.

وبحكم نشاطها النسوي، تواصلت ميساء مع الشخص وهددته بإيصال الحادثة إلى والده، “فخفّت التهديدات ولكن المضايقات لم تتوقف إلى الآن”، بحسب ميساء.

إقصائهنّ عن الشأن العام

منذ اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011، انخرطت الناشطة زهرة (اسم مستعار) في النشاط السياسي والاجتماعي متنقلة بين تركيا ومناطق المعارضة بمحافظة حلب شمال سوريا، وأسهمت في التشبيك بين المجالس المحلية التابعة للمعارضة والفعاليات المدنية في المنطقة.

وفي عام 2013، صار المشهد العسكري أكثر تعقيداً وأشد خطورة على النساء، خصوصاً مع محاولات تنظيم داعش الاستيلاء على المنطقة، كما قالت زهرة لـ”سوريا على طول”، لكنها حاولت مواصلة نشاطها إلى أن “وصلتني رسالة نصية من رقم مجهول، أخبرني المرسل بأنه يعرف مكان إقامتي، ولديه كل المعلومات عن بناتي”، متوعداً بأنّ “الثمن سيكون غالياً”.

استمرت التهديدات لمدة ثلاثة أشهر، من دون أن تعرف زهرة مصدرها، لكنها قررت بعد ذلك “الانكفاء عن النشاط العام، وصار نشاط عملي في نطاق ضيق”، وبعد مرور تسع سنوات على الحادثة إلا أن زهرة لم تفكر العودة إلى النشاط العام، بحسب قولها. 

ولا يقتصر استهداف النساء السوريات الناشطات على التهديد والابتزاز، وإنما قد يأخذ شكل “التنمر”، كما أوضحت ليلى حسو، التي تعمل في مجال “مناصرة القضايا الإنسانية” للمتضررين، مشيرة إلى تعرض النساء المشاركات في الاجتماعات الدولية للاستجابة الإنسانية “للضغط بهدف الحد من فعاليتهنّ في تلك الاجتماعات”.

استشهدت ليلى بجلسة تصويت “رفض الرجال الإدلاء بأصواتهم للنساء، وخصصوا أسماءهم للرجال فقط”، بحسب ما ذكرت لـ”سوريا على طول”، وعندما لاحظ المسؤول ذلك “عيّن مجموعة من السيدات، إحداهن أنا، ما أثار اعتراض بقية الأعضاء الذكور”.

وغالباً ما يتم التشكيك بمهنية النساء وقدرتهنّ على إنجاز المهام الموكلة إليهن، وفقاً لليلى، ناهيك عن “طريقة التعامل بدونية، وسلب حقنا في الإدلاء برأينا في الاجتماعات”.

واعتبرت الناشطة منى فريج في منشور لها عبر “فيسبوك” أن “عمليات الابتزاز والتهديد والتشهير التي أتعرض لها وتتعرض لها الناشطات هو أحد أسباب إقصائهنّ عن الانخراط في الشأن العام، وهذا ما يسعى إليه الكثيرون”. 

أكبر من القوانين

تكرار استهداف النساء العاملات في الشأن العام بعمليات ابتزاز واستغلال، يتطلب جهداً أكبر “وسنّ قوانين رادعة” من شأنها أن تضع حداً لهذه الانتهاكات وتشجّع النساء على “الإبلاغ عن جرائم الابتزاز وعدم التستر عنها خشية الخوف من التهديد”، بحسب رابية الحرامي، الاستشارية القانونية في برامج الحماية بمنظمة شفق العاملة شمال غرب سوريا، موضحة أن الشكوى القانونية أهم خطوة في طريق محاسبة مرتكبي أفعال التهديد والابتزاز.

يعاقب قانون العقوبات العام السوري، وفق المادة 636 منه، “كل من هدد شخصاً بفضح أمر أو إفشائه أو الإخبار عنه وكان من شأنه أن ينال من قدر هذا الشخص أو شرفه لكي يحمله على جلب منفعة له أو لغيره غير مشروعة” بعقوبة السجن حتى سنتين وبغرامة تصل إلى 500 ليرة سورية (0.13 سنتاً أميركياً بحسب سعر الصرف الحالي البالغ 3965 ليرة للدولار)، وعدا عن كونه ضعيفاً، فإن القانون غير نافذ في كل مناطق السيطرة، كما في محافظة إدلب “حيث “العقوبات تعزيرية”، وفقاً لرابية.

في المقابل، قليلاً من النساء “يتقدمنّ بشكاية قانونية”، قالت رابية. لكن عزوف النساء عن البوح بحوادث الابتزاز والتهديد سببه “أن المرأة تخاف من الشخص مصدر التهديد، ومن المجتمع، بما في ذلك أهلها”، كما قالت هند قبوات، الأستاذة الجامعية، وعضو مجلس إدارة منظمة “تستقل”، التي تنشط في شمال غرب سوريا، مشيرة إلى أن “بعض الأهالي يعتبرون أن المشكلة بابنتهم حتى إن تقدمت بشكوى”.

واستنكرت قبوات أن تُعامل المرأة على أنها “عار”، مطالبة المجتمع السوري إلى الاستفادة من تجارب دول آسيوية وإسلامية، من قبيل سنغافورة وتركيا، حيث تأخذ المرأة مكانتها، “وهي عندهم قائدة ورمزاً وليست عاراً”. 

إحدى المشاركات في حملة أطلقتها “مساحة سلام” لمناهضة العنف ضد النساء في شمال غرب سوريا، 25/ 11/ 2019 (مساحة سلام)

دعم لا يتناسب مع الواقع

طلب مدير إحدى المنظمات الإنسانية، شمال غرب سوريا، من إحدى الموظفات في المنظمة “علاقة جسدية كشرط لتجديد عقدها، فامتنعت عن تلبية رغباته وخسرت عملها”، كما قالت الاستشارية صفاء كريدي، مشيرة إلى أن الموظفة “خشيت من انتقام المدير كونه صاحب نفوذ، ومن أن تفقد فرصها في التوظيف بمنظمات أخرى”.

حصلت الموظفة على جلسات دعم نفسي مستفيدة من أحد برامج الدعم النفسي التي تقدمها كريدي مع إحدى المنظمات شمال غرب سوريا، وأوضحت كريدي أن التعامل مع مثل تلك الحالات يكون “عبر جلسات فردية بين الناجية ومديرة الحالية”، يتم خلالها “التفريغ النفسي للناجية وربطها بالخدمات والقطاعات بناء على احتياجاتها ورغباتها”.

وتقدم منظمات أخرى، من قبيل فريق “سلامتك”، برامج دعم وتدريب على “الأمن الرقمي” للعاملين والعاملات في الشأن العام.

وتراعي البرامج الخاصة بقضايا “ابتزاز النساء” حساسية الحالات، وفق كريدي، لذلك تم تخصيص بريداً إلكترونياً في البرنامج الذي تعمل عليه للتواصل وتشجيع الإبلاغ، إذ “يمكن للناجية الإبلاغ عن الحادثة من دون ذكر اسمها أو استخدام اسم وهمي، وتتوثق الشبكة من الحادثة بشكل سري حفاظاً على سلامة الناجية”.

ومع أهمية برامج الدعم النفسي للنساء، إلا أن الواقع يتطلب “توعية كبيرة للمجتمع بكل شرائحه”، إضافة إلى “تشريع قوانين قوية وصارمة للحد من الاعتداء على المرأة”، وفق هند قبوات.

وتختزل قصة حلا الزين واقع كثير من النساء، إذ رغم مرور سنوات على الحادثة التي تعرضت لها، إلا أنها لم تتقدم بشكوى قانونية، ومع كل وصول رسالة من جهة اتصال غير معروفة “أشعر باضطراب ويزيد خفقان قلبي”، كما قالت.

وختمت حديثها “من حقي أن أشارك في الشأن العام من دون خوف على نفسي وسمعتي وعائلتي، وأن أمارس حقي من دون تهديد”.

كان شهر حزيران/ يونيو الحالي صادماً، حيث شهد عدة جرائم قتل بشعة بحق نساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من قبيل جريمة قتل الطالبة الأردنية إيمان إرشيد داخل الحرم الجامعي، في 23 من الشهر، وقبلها بأيام مقتل نيرة أشرف طعناً بسكين في محافظة المنصورة بمصر، تكشف تلك الجرائم عن أزمة أوسع تهدد النساء، بما فيهنّ السوريات العاملات في الشأن العام، وسط واقع أمني ومعيشي وتشريعي سيء تشهده البلاد.

شارك هذا المقال