12 دقائق قراءة

الأقليات في إدلب ورقة بيد “تحرير الشام” لتبييض سجل طويل من الانتهاكات (خريطة)

بعد سنوات من الانتهاكات التي ارتكبتها هيئة تحرير الشام ضد الأقليات في إدلب (مسيحيون ودروز)، تحاول تبني سياسة منفتحة تجاههم، وتعمل على رد الممتلكات لأصحابها، ولكن ماذا عن جبر الضرر؟


9 ديسمبر 2023

باريس، إدلب- بعد خمس سنوات من مصادرة أرضهم الزراعية، البالغة مساحتها 60 دونماً، في قرية الجديدة “المسيحية” بريف جسر الشغور غرب إدلب، أعادت هيئة تحرير الشام الأرض لأصحابها، في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كما قال جوليان (اسم مستعار)، لـ”سوريا على طول”.

كان العائد من محاصيل هذه الأرض هو دخل العائلة الرئيسي، بحسب جوليان، وهو مسيحي نازح مع زوجته وأطفاله الستة إلى مدينة حلب، الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، منذ عام 2015، هرباً من قصف الأخير على محافظة إدلب.

رفض والداه مرافقته في رحلة نزوحه، حفاظاً على منزل العائلة وأراضيها، لكن بعد وفاة والده، في عام 2018، “صادر عناصر الهيئة بعض أثاث المنزل، واشتروا جراراً زراعياً بتراب الفلوس”، ومنعوا أمه من دخول الأرض “بحجة أن محرمها [زوجها] مات، وصارت الأرض للمجاهدين”، بحسب مزاعم جوليان. 

بعد مصادرة الأرض، ترددت أم جوليان عدة مرات إلى الهيئة، والتقت قادة في صفوفها ملتمسة إعادة الأرض، التي تمثل مصدر دخل العائلة، لتستعيد 15 دونماً منها بحلول عام 2021، “وبقي الجزء الأكبر، الذي يضم الأشجار المثمرة بيد الهيئة حتى تشرين الأول/ أكتوبر الماضي”، وفق جوليان. 

ردت هيئة تحرير الشام الأرض لعائلة جوليان، في إطار عملية إعادة الملكيات العقارية للأقليات (مسيحيون ودروز) في مناطق سيطرتها، شمال غرب سوريا، التي بدأتها في أيلول/ سبتمبر 2023، بعد سنوات من مصادرتها على اعتبار أنها “غنائم حرب”.

بعد سنوات من الانتهاكات، انتهجت هيئة تحرير الشام وواجهتها المدنية المتمثلة بـ”حكومة الإنقاذ” سياسة مغايرة في تعاملها مع الأقليات في مناطق نفوذها، بما في ذلك رد الممتلكات لأصحابها، في إطار مساعٍ بدأتها عام 2020، لشطب اسمها من قوائم الإرهاب، عبر تغيير سلوكها والانفتاح على الغرب والمجتمع المحلي، وخصوصاً الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة.

يتركز وجود الأقليات بمناطق هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا بعدد من القرى والبلدات: اليعقوبية، الجديدة، القنية، الغسانية، وحلوز، وهي أماكن تجمّع المسيحيين، إضافة إلى وجودهم في إدلب المدينة. بينما يتوزع الدروز على 18 قرية، منها قريتان كانتا خليطاً من السنة والدروز قبل ثورة آذار/ مارس 2011، لكن بعد اندلاع الثورة، وتالياً سيطرة تحرير الشام على المنطقة، عام 2015، التي كانت معروفة آنذاك بـ”جيش الفتح”، صارت جميع القرى خليطاً من السكان الأصليين الدروز والسكان الوافدين السنّة، سوريين وغير سوريين.

خريطة توضح أماكن القرى المسيحية والدرزية في محافظة إدلب، سوريا (سوريا على طول)

في عام 2010، قدرت أعداد المسيحيين بمحافظة إدلب بحوالي عشرة آلاف مسيحي. لم يتبقَ منهم سوى 300 شخص تقريباً، يتوزعون في قرى ريف جسر الشغور. فيما انخفض عدد الدروز في المحافظة إلى 12 ألف شخص تقريباً، بعد أن كان تعدادهم قبل 2011 حوالي 30 ألف نسمة، كما قال لـ”سوريا على طول”، عبد المجيد شريف، أحد أبناء الطائفة الدرزية، من مكان إقامته في إدلب.

سياسة هيئة تحرير الشام الرامية إلى إنهاء ملف الانتهاكات بحق “الأقليات” تثير التساؤل: هل يمكن طيّ تاريخ من الظلم والانتهاكات، وتُعوض “السنوات العجاف” التي عاشها مسيحيو ودروز إدلب، وهل تعيد لهم حق التصرف في أملاكهم وإدارتها من دون ضغوط؟

طي الماضي

منذ سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) على المنطقة، في عام 2015، اعتدت على حقوق المسيحيين والدروز، بما في ذلك ملكياتهم العقارية، من قبيل مصادرة أملاك الغائبين، والتضييق على من بقي منهم في مناطق نفوذها بمجموعة من القوانين والقيود، منها: منعهم من ممارسة طقوسهم الدينية.

في حزيران/ يونيو 2015، قتل عدد من الدروز في قرية “قلب لوزة” الدرزية بجبل الزاوية، عندما حاول قيادي تونسي من هيئة تحرير الشام (النصرة آنذاك)، الاستيلاء على منزل لأحد المدنيين في القرية، وعند مقاومة أصحاب المنزل فتح القيادي وعناصره النار على المدنيين المتجمهرين.

تركت الهيئة أملاك المسيحيين الذين قرروا البقاء في مناطق نفوذها تحت تصرف أصحابها، وسمحت لهم بالعمل في أراضيهم الزراعية، مع وجود تضييقات شديدة وحد من الحريات ومصادرة بعض الأراضي.

قرية اليعقوبية المسيحية بريف جسر الشغور، غرب إدلب، 25/ 11/ 2023 (بهاء طه/ سوريا على طول)

وانطبق ذلك على الدروز أيضاً، مع فرض شرط إضافي، تمثل في إجبارهم على “اعتناق الإسلام”، معتبرة أن مذهبهم ليس من الإسلام.

وفي إطار سياستها الرامية إلى طي صفحة الماضي، وردّ حقوق الأقليات، سلمت هيئة تحرير الشام، في أيلول/ سبتمبر 2023، غالبية منازل المسيحيين لأصحابها أو للمفوضين عنهم أو وجهاء مخولين بمتابعة ملف إعادة العقارات لأصحابها، كما قالت مصادر مسيحية لـ”سوريا على طول”.

وفي ذلك، أكد أبو بطرس، أحد المسيحيين المخولين بمتابعة ملف عقارات أبناء طائفته مع الهيئة “تسليم هيئة تحرير الشام غالبية العقارات: المنازل والمحال التجارية، باستثناء جزء بسيط جداً، لكنها على طريق الحل”، وحاولت “سوريا على طول” معرفة سبب تأخير حل الجزء الأخير، إلا أنه لم يوضح الأسباب.

ودعا أبو بطرس المسيحيين، المقيمين خارج المنطقة ولم يستردوا أملاكهم، توكيل أشخاص في المنطقة من أجل استردادها.

“منذ استلام الوجهاء المسيحيين العقارات، صاروا مخولين بتحصيل الإيجارات من شاغليها بعد أن كانت الهيئة تجمع هذه الإيجارات”، بحسب أبو بطرس، مشيراً إلى أن هناك عقارات “سوف يجري إخلاء المستأجرين منها اعتباراً من مطلع عام 2024”.

السياسة التي اتبعتها هيئة تحرير الشام مع المسيحيين لم تطبقها على الدروز، إذ اكتفت بتسليم عقارات الدروز للأقارب من الدرجة الأولى الموجودين في مناطق نفوذها، وما دون ذلك “بقيت عقاراتهم تحت وصاية الهيئة”، كما قال لـ”سوريا على طول” عبد المجيد شريف، مشيراً إلى أنه لم يتمكن من استلام منزل شقيقه، الذي توفي قبل بدء عملية ردّ العقارات، لأن قرابته به ليست من الدرجة الأولى.

شرط تسليم الحق لصاحبه أو الأقارب من الدرجة الأولى، عملت به الهيئة بالنسبة للمسيحيين “فقط في الأراضي الزراعية”، بحسب أبو بطرس. بينما ترفض رد الأراضي الزراعية العائدة للدروز كما هو الحال بالنسبة للمسيحيين، كما أوضح شريف.

وتساءل شريف: “بماذا تختلف الأرض الزراعية عن العقارات السكنية حتى تمنع الهيئة إعادتها”، مشيراً إلى أن ابن أخٍ له “يطالب بأرض والده منذ سبع سنوات ولم يتمكن من استردادها حتى الآن”، رغم سياسة الانفتاح الأخيرة التي تنتهجها الهيئة مع الأقليات.

وأيضاً من حالات التمييز بين الأقليات، اشترطت الهيئة على الدروز، “الإبقاء على العائلات التي تشغل عقاراتهم بعد ردها لهم لمدة عام كامل، مقابل إيجار منصف، وإذا لم يلتزم المستأجر بدفع الإيجار يمكن لصاحب العقار مراجعة مكتب تابع للهيئة، لإلزامه بالدفع”، وفقاً لشريف. 

حاولت “سوريا على طول” التواصل مع هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ لتوضيح سبب التمييز في التعامل بين المسيحيين والدروز، وبين العقارات السكنية والتجارية والأراضي الزراعية، لكنها لم تتلق رداً حتى لحظة نشر هذا التقرير.

حقوق منقوصة

بينما كانت خيرات الأرض تذهب لعناصر هيئة تحرير الشام، عاش جوليان أصعب سنوات حياته، قائلاً: “في وقت أصل الليل بالنهار لتأمين طعام أطفالي، وأدفع إيجارات مرتفعة بمكان نزوحنا، هناك من نهب رزقنا واستحوذ على أملاكنا في الجديدة”.

“كان دخلنا موسمي، في الشتاء نستخلص من الزيتون زيتاً ونعيش على مردوده عدة أشهر، وفي الصيف نستفيد من الفواكه والخضار”، بحسب جوليان، مشيراً إلى أنه اليوم “عاجز عن تأمين القليل من زيت الزيتون”.

ومع أن الهيئة أعادت الأرض كاملة، إلا أن عائلة جوليان لم تسترد حقها كاملاً من وجهة نظره، كونها “لم تدفع تعويضاً عن السنوات التي استثمرتها، ولم تحاسب المسؤولين عن هذه الجرائم”.

كذلك الحال بالنسبة لأبو طارق، 67 عاماً، المقيم في لبنان منذ عام 2015، الذي أعادت الهيئة منزله ومحليه التجاريين إلى أخته، في أيلول/ سبتمبر 2023، بعد أن قدمت تفويضاً من أخيها وتسجيلاً مصوراً يؤكد رغبته باستلام أخته لهذه العقارات، لكن ردّ حقه “لم يشمل إعادة أثاث المنزل ومعدات محلي التجاريين أو تعويضي عنها، كما لم يتم تعويض الضرر عن السنوات الماضية”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.

غادر أبو طارق قريته كفتين بريف إدلب، رفقة زوجته وابنه من ذوي الاحتياجات الخاصة، في زيارة عائلية إلى لبنان، وبعد أيام من مغادرته استولت الهيئة على أملاكه، “وكأنهم كانوا يترصدون خروجنا للاستيلاء على أملاكنا”.

حاول أبو طارق، آنذاك، استعادة أملاكه عبر أشخاص من عائلته، لكن “الهيئة رفضت إعادتها، لذلك قررت البقاء في لبنان”. طيلة هذه السنوات يعاني الرجل الستيني من “عيشة صعبة جداً”، كما وصفها، مشيراً إلى أنه يعتمد على المساعدات “فأنا وزوجتي لا يمكننا العمل لأننا كبيرين في السن، وابني شاب عاجز”.  

بعد سياسة “الانفتاح على المسيحيين” حاول جوليان، الذي يقتله الحنين لأمه ويعاني الأمرين في مكان نزوحه، العودة إلى قرية الجديدة، عبر طلب تقدم به معارفه في القرية لهيئة تحرير الشام، لكنه لم يحصل على الموافقة “لأن عليّ خط أحمر”، في إشارة إلى أنه مطلوب للهيئة، بحسب قوله.

بقاء جوليان في مكان نزوحه بحلب يكلفه سنوياً 40 مليون ليرة سورية (2900 دولاراً أميركياً تقريباً، بحسب سعر الصرف الحالي في السوق السوداء، البالغ 13,800 ليرة للدولار)، وهي “إيجار المنزل والمحل وفواتير الكهرباء والمياه”.

“لو أعطونا الأمان لن يبقى مسيحي مهجر عن قريته في محافظة إدلب”، بحسب جوليان، الذي عبّر عن عدم سعادته في حلب، وأن “نسمة هواء في الجديدة أفضل من ستمائة حلب”، على حد وصفه.

تعليقاً على ذلك، قال أبو بطرس، أحد المسيحيين الذين يتابعون مع الهيئة ملف عقارات أبناء طائفته، أن “بعض الشباب المسيحيين عادوا من مناطق سيطرة النظام إلى قريتي الجديدة والقنية خلال الأشهر الأخيرة”، دون إعطاء مزيد من التفاصيل عن أعدادهم وآلية التنسيق لعودتهم، أو كيفية تعامل الهيئة معهم بعد العودة.

صورة لسوق قرية القنية المسيحية بريف إدلب، تظهر فيها بعض آثار الدمار نتيجة عمليات القصف خلال السنوات الماضية، 25/ 11/ 2023 ( بهاء طه/ سوريا على طول)

تغيير ديموغرافي

عند زيارة قرية اليعقوبية، يمكنك بسهولة أن تميز وجوه سكانها النازحين إليها، الذين حلوا محل السكان الأصليين بعد نزوح غالبيتهم عن مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام.

وعند مدخل القرية، تجد بقايا منازل إسمنتية، أزالتها “تحرير الشام” قبل عامين، كونها مخالفات عمرانية، شيدها نازحون على أراض تعود ملكيتها لعائلات مسيحية مهجرة، كما ذكرت مصادر لطه.

مدرسة كنسية القنية، التي تحولت إلى مأوى للنازحين، في غرب إدلب، 25/ 11/ 2023 (بهاء طه/ سوريا على طول)

لم تؤثر قرارات الهيئة المتعلقة برد المنازل للمسيحيين على عودة سكان القرية، وإنما بدأ النازحون بدفع الإيجارات لمالكي العقارات أو من ينوب عنهم، وهذه الإيجارات “ما تزال زهيدة”، بحسب بهاء طه، مراسل “سوريا على طول”، الذي زار القرية والتقى بنازحين فيها.

يتراوح عدد المسيحيين في اليعقوبية حالياً بين 28 و35 عائلة، تتكون العائلة من شخص أو اثنين من كبار السن، بينما يبلغ عدد العائلات المسيحية في قرية القنية، التي تم تحويل مدرسة الكنيسة فيها إلى مأوى للنازحين بحدود 92 عائلة، وفي بلدة الجديدة حوالي 85 عائلة، أما قريتي الغسانية وحلوز خاليتان تماماً من المسيحيين، منذ عام 2016، بعدما هاجر جميع سكانها، وهي أرقام تقديرية سمعها مراسل “سوريا على طول” من مصادر في هذه القرى أثناء جولته في المنطقة.

من جهته، قدر جميل دياربكرلي، المدير التنفيذي للمرصد الآشوري لحقوق الإنسان، وهو مركز حقوقي يعنى بقضايا المسيحيين في الشرق الأوسط، ومقره السويد، “أعداد المسيحيين المتبقين في ريف إدلب بحوالي 300 شخص، بينما إدلب المدينة خالية تماماً”، كما قال لـ”سوريا على طول”، وعزا عدم وجود أرقام دقيقة إلى “صعوبة إجراء مسح دوري في المنطقة في ظل التضييق على المؤسسات الحقوقية”.

“هذا المكون انتهى وجوده تقريباً في تلك المنطقة بعد أن كان متواجداً في أكثر من قرية وبلدة وبشكل فعال”، قال دياربكرلي لـ”سوريا على طول”، معتبراً أن المنطقة شهدت “عمليات تغيير ديموغرافي”.

وأضاف دياربكرلي: “عندما تزرع مكون في منطقة على حساب مكون آخر، وعلى حساب وجود وحضور ونسبة المكون الأصلي، فهنا تكمن المشكلة الأكبر”.

التغيرات ذاتها طالت الدروز، لكن على نحو أقل، فمنذ ثماني سنوات، تحولت القرى الدرزية، البالغ عددها 18 قرية، من قرى ذات لون طائفي واحد إلى خليط من السكان المحليين والنازحين الذين قدموا إلى هذه القرى بحثاً عن مأوى، بحسب شريف.

وأضاف شريف: “جميع القرى الدرزية صار فيها خليط من النازحين والدروز، وهذا لا يزعجنا، وإنما المشكلة في إشغال المنازل من قبل عائلات مقاتلين أجانب تابعين للهيئة، التي أخليت مؤخراً وسُلمت إلى عائلات سورية بدلاً من أصحابها”.

يؤدي إسكان النازحين في القرى الدرزية إلى تغيير في التركيبة السكانية، ومع ذلك هذا لا يثير مخاوف أبو ليث (اسم مستعار)، 57 عاماً، من أبناء الطائفة الدرزية، يقيم في قرية كفتين، طالما أن “النازحين لم يغيروا في بنية العقار وملكيته”.

وأضاف أبو ليث لـ”سوريا على طول”: “نحن في حالة حرب، والناس تبحث عن مأوى، ومن الطبيعي أن ينتقل الناس من قرية إلى قرية بغض النظر عن هوية سكانها الأصليين”، مشدداً على أن “مشكلتنا ليست مع الذين يقيمون في قرانا، وإنما مع الهيئة التي تصادر بيوتنا وأرضنا”.

كنيسة قرية اليعقوبية، التي تعرض جزء منها للدمار نتيجة الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا في شباط/ فبراير الماضي، 25/ 11/ 2023 (بهاء طه – سوريا على طول)

عودوا إلى إدلب!

مع ما تحمله العودة من مخاطر ومستقبل مجهول، حاول جوليان العودة إلى قرية الجديدة، مسقط رأسه، لكن “تحرير الشام”، “ما تزال ترفض عودتي”.

تتعارض رواية جوليان مع سياسة “تحرير الشام” الرامية إلى استثمار ورقة الأقليات بحثهم على العودة إلى قراهم في مناطق سيطرتها، لاسيما المسيحيين، الذين أولت لهم اهتماماً خاصاً. زار قائد تحرير الشام أبو محمد الجولاني القرى المسيحية والدرزية مراراً خلال السنوات الثلاث الماضية والتقى بأشخاص من هذين المكونين.

طلب الجولاني أثناء لقائه بالدروز والمسيحيين في إدلب حث ذويهم وأقاربهم، النازحين عن المنطقة بالعودة إلى إدلب، متعهداً بأن تتكفل “تحرير الشام” بحمايتهم وإعادة حقوقهم، وفقاً لأربعة مصادر مسيحية ودرزية.

تعليقاً على ذلك، أكد جميل دياربكرلي، من المرصد الآشوري، وجود “مساعي ومباحثات بين شخصيات مسيحية وتحرير الشام”، في إطار معالجة الانتهاكات السابقة، لكن”حتى اللحظة لا تستطيع هيئة تحرير الشام ضبط السلاح المنفلت في المنطقة، وضبط عناصرها أيضاً”، بحسب دياربكرلي، متسائلاً: “كيف نستطيع التيقن من إجراءات معالجة الانتهاكات. لأن رد الهيئة مع حدوث أي انتهاك سيكون بأن المسؤول عن الانتهاك مجموعة منفلتة غير منضبطة”.

تجري غالبية عمليات عودة المسيحيين إلى محافظة إدلب “عبر خوري اليعقوبية، الذي ينسق بين تحرير الشام والمسيحيين الراغبين بالعودة إلى منازلهم”، كما علم مراسل “سوريا على طول” بهاء طه من مصادر مقربة من هيئة تحرير الشام، مشيراً إلى أن الأخيرة “تجري دراسة أمنية على الشخص الذي يريد العودة، وفي حال خلو سجله من أي مشكلة تسمح له بالعودة”.

وعدا عن ثقة المسيحيين بهيئة تحرير الشام ومدى وفائها بالوعود التي أطلقتها، فإن غياب الخدمات الرئيسية عن قراهم مقارنة بباقي المناطق في إدلب يعد عاملاً إضافياً من عوامل عدم العودة، إذ تعانى القرى المسيحية من “غياب الخدمات الأساسية، مثل: الكهرباء والمياه”، بحسب طه.

تعليقاً على ذلك، قال أبو بطرس، أنهم حصلوا على وعود من “تحرير الشام” بأن “يتحسن واقع الكهرباء والمياه في قرانا قبل نهاية العام الحالي”.

من جهته، قلل الحقوقي بسام الأحمد، مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، وهي منظمة حقوقية تعنى بتوثيق الانتهاكات في سوريا، من فرص نجاح “مقاربة تحرير الشام”، التي تشبه مقاربة حركة طالبان الأفغانية، نظراً لمجموعة من الأسباب المتعلقة بفكر المجتمع السوري المعتدل وغيرها.

وأضاف الأحمد لـ”سوريا على طول”، “تحاول تحرير الشام أن تبعث رسائل تطمينية للأقليات بمساعدة من منظمات دولية ودول خليجية”، واصفاً مساعيها بأنه “استثمار غير ناجح وتجميل شيء غير جميل، لأن جوهر مشروع تحرير الشام لا يقوم على المواطنة، إنما ينظر لهؤلاء الناس بأنهم درجة ثانية أو أهل ذمة”.

وتنص المادة 17 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه “لكل فرد حق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره. لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً”، وربط الأحمد هذا الحق بـ”أن يعيش الإنسان حياة آمنة كريمة”، وهذا غير متوفر حالياً بالنسبة للأقليات في إدلب.

ووفقاً للمادة 768 من القانون المدني السوري، فإن للمالك وحده “بحدود القانون” الحق في استعمال ملكه والتصرف فيه، وأن “حق الملكية هو حق لمالك الشيء وحده”، وبالتالي فإن “قرار الهيئة المتمثل في منع المسيحيين أو أقربائهم الموجودين في إدلب المالكين لسندات توكيل من أقربائهم، من التصرف بعقاراتهم هو خرق لنص وروح القانون في حق المالك بالتصرف بملكه كيفما يشاء”، كما قال محامٍ سوري مقيم في عفرين لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم ذكر اسمه لدواع أمنية.

كذلك، شددت المادة 15 من الدستور السوري الصادر عام 2012 على أن “الملكية الخاصة هي ملكية مصانة، ونصت على عدم جواز نزع ملكية خاصة إلا للمنفعة العامة بمرسوم ومقابل تعويض عادل”، وأيضاً شددت على “عدم جواز المصادرة الخاصة إلا لضرورات الحرب والكوارث العامة، كما اشترطت وجود قانون لتعويض عادل للممتلكات”.

وفي القانون الدولي يعتبر الاستيلاء على الملكية “جريمة حرب، إذ حَمَت اتفاقيات جنيف 1949 الأربعة وبروتوكولاتها، الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية ومنعت الاستيلاء على ممتلكاتهم، وطالبت باتخاذ إجراءات تمنع حدوث كافة الانتهاكات”، كما “صنفت المحكمة الجنائية الدولية في المادة الثامنة من نظام روما الأساسي، جرم الاستيلاء على الممتلكات أثناء النزاعات المسلحة سواء أكانت دولية، أم غير طابع دولي -كما في الحالة السورية- على أنه جريمة حرب، وخاصة عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة ممنهجة في إطار عمليات ارتكاب واسعة”، بحسب المحامي.

وبدوره، قال الأحمد:“تحمي القوانين الدولية في كل الأوقات الملكيات سواء من الاستيلاء أو النهب أو التدمير الجزئي أو الأعمال الانتقامية وغيرها”. وفي حالة الدروز والمسيحيين في إدلب، “جرت انتهاكات على نطاق واسع. نحن نتحدث عن آلاف الأشخاص، لذا ما حدث جريمة حرب ممنهجة، وقد ترقى إلى أن تكون جرائم ضد الإنسانية”، من وجهة نظره.

وختم الأحمد: “يجب محاسبة الفاعلين وتعويض الناس واسترجاع ممتلكاتهم، وهي مشكلة سورية عامة تكررت في مناطق أخرى مثل عفرين وشرق سوريا ودرعا ودوما وغيرها”.

شارك هذا المقال