7 دقائق قراءة

صيادو الآثار في الشمال السوري بين السعي وراء لقمة العيش وجريمة سرقة تاريخ البلاد

في ساعات متأخرة من الليل، يتجول عبد الرحمن، البالغ من […]


9 ديسمبر 2016

في ساعات متأخرة من الليل، يتجول عبد الرحمن، البالغ من العمر 30 عاما، في مدينة أفاميا القديمة، وبيده جهاز الكشف عن المعادن.

كانت المدينة التي بناها ملوك السلوقيين قبل 2300 عام، خزينة ثروة إمبراطوريتهم، التي امتدت من الأناضول قديما إلى باكستان حديثا. وعلى مدى ألفي عام مضت، توالت على المدينة القديمة، التي تقع اليوم شمال غرب سوريا على خط المواجهة بين قوات الحكومة السورية وقوات المعارضة، حضارات عدة كالرومانية والبيزنطية وغيرها.

أما أعمدة أفاميا، الأطول في العالم القديم، فكانت واحدة من مناطق الجذب السياحي القيمة في سوريا. الآن، لم يعد هناك سياح يزورون الموقع كما أصبحت آثاره بحالة سيئة، وامتلأت الأرض بالحفر من قبل صيادي الآثار الثمينة كعبد الرحمن.

وفي حال حالفه الحظ، يجني عبد الرحمن ما بين 300 و500 دولار شهريا من خلال بيع القطع الأثرية المدفونة، وهو ما يؤمن له مصدر دخل جيد في محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة المعارضة شمال غرب سوريا، حيث الرواتب والأجور هناك نادرا ما تتجاوز 75 دولارا شهريا.

وتقع أفاميا على الحدود بين إدلب، الخاضعة لسيطرة المعارضة، ومحافظة حماة التي يسيطر عليها النظام السوري، مما دفع عبد الرحمن وشركاءه للعمل ليلا فقط خفية عن أعين النظام وقوات المعارضة.

وفي حال ألقي القبض على عبد الرحمن من قبل النظام، فإنه قد يواجه عقوبة تصل إلى السجن مدة 25 عاما، بينما إذا ألقت الجماعات الإسلامية القبض عليه، فربما يتم قطع يده، وهي عقوبة صيادي الآثار والكنوز.

ووفقا لعبد الرحمن فإن ما يجنيه يستحق المخاطرة.

ويقول عبد الرحمن لسوريا على طول “في إحدى المرات، بعت عملة قديمة واحدة مقابل 500 دولار، لكن الأمور لا تسير دوما على هذا النحو، ففي بعض الأحيان نحفر لأسابيع وأسابيع دون العثور على أي شيء”.

إحدى القطع النقدية التي استخرجها عبد الرحمن مؤخرا. تصوير: عبد الرحمن.

وفي حال لم يعثر عبد الرحمن على أي شيء بعد الحفر، فإن ذلك يترك لديه شعورا بـ”اليأس”، لكنه يواصل مع شركائه حتى يجدوا قطعة يتمكنون من بيعها.

ويضيف عبد الرحمن “بالطبع، أشعر بالذنب في كل مرة أبيع فيها قطعة من تاريخ بلادي، لكنني أشعر بذنب أكبر عندما أرى أطفالي يتضورون جوعا”.

وعبد الرحمن هو شخص واحد ضمن شبكة كبيرة: تجار وسماسرة، تربطهم علاقات مع كل من مقاتلي المعارضة ومسؤولي النظام، يشترون منهم الأشياء التي يجدونها. وبعد ذلك يتم تهريبها إلى تركيا أو لبنان. من هناك، يتم ضم القطع الأثرية إلى سوق سوداء واسعة يتردد إليها الأثرياء من أوروبا والولايات المتحدة ودول الخليج ممن يشترون الآثار.

ولكن بينما تسعى هذه الشبكة الواسعة من الباحثين عن الآثار والمهربين والتجار للاستفادة من تدمير المواقع التاريخية في سوريا، تعمل مجموعة متنوعة من النشطاء وعلماء الآثار ومسؤولي الأمم المتحدة على حمايتها.

الدكتور عمرو العظم هو واحد من الأشخاص ممن يتتبعون الباحثين عن الآثار. والعظم، أستاذ مشارك في كلية الآثار في جامعة شاوني ستيت في ولاية أوهايو، وهو في الأصل من دمشق. (لقراءة المقابلة كاملة مع عمرو العظم هنا).

وقال العظم لسوريا على طول “منذ بداية عام 2012، شهدت أنا وزملائي داخل سوريا وخارجها هذه الجريمة تتكشف عندما تعلق الأمر بالتراث الثقافي”.

وعمل عالم الآثار، الذي تلقى تعليمه في لندن، مديرا للمخابر العلمية والصيانة في المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا، في الفترة من 1999 حتى 2004. وبعد ذلك، عمل كمدرس في جامعة دمشق قبل أن ينتقل إلى الولايات المتحدة.

ويعمل العظم في الوقت الحالي مع جمعية حماية الآثار السورية، وتضم مجموعة من علماء الآثار والشخصيات المعنية من السوريين (العديد منهم كانوا طلابا لديه في السابق) يعملون على حماية المتاحف وتحصينها ضد القذائف وتتبع حركة تجارة القطع الأثرية السورية.

‘موسم مفتوح’

تعد السوق السوداء للآثار أحد المصادر البارزة في تمويل الجماعات المتشددة مثل تنظيم الدولة، الذي يجني عدة ملايين من الدولارات سنويا من بيع التحف، وفقا لما ذكرته وزارة الخارجية الأمريكية في أيلول 2016.

ولكن الأمر لا يقتصر على تنظيم الدولة فقط، كطرف مستفيد من بيع التراث السوري. حيث يصف العظم سوق الآثار بأنه “متاح للجميع”.

وقال العظم لسوريا على طول “إنه سوق مفتوح”، مضيفا “لا يقتصر الأمر على المعارضة أو مجموعات معينة فقط، فالنظام مشارك بهذا العمل أيضا”.

وهناك “قائمة طويلة من كبار مسؤولي النظام وأتباعهم ممن يتاجرون بالآثار، والبعض منهم منازلهم عبارة عن متاحف حقيقية، زرت البعض منها”.

وعلى الرغم من أن شراء وبيع القطع الأثرية كان حكرا على الأثرياء، إلا أن غياب الحراسة عن المواقع الأثرية ترك الباب مفتوحا لما سماه العظم بـ”سرقة موارد العيش”، لأن السكان ليس لديهم الكثير ليقوموا به من أجل البقاء أحياء والحصول على لقمة عيشهم.

ومنذ عام 2012، يعمل العظم وعدد من زملائه من منظمة اليوم التالي (وهي مبادرة بقيادة سورية من أجل “التحول الديمقراطي في سوريا) على حماية التراث السوري. وكتحالف دولي من علماء الآثار وأمناء المتاحف، والناشطين، يقول العظم أنهم نجحوا على مدى السنوات القليلة الماضية في حماية المواقع الأثرية.

ففي ربيع عام 2016، عمل العظم بالتنسيق مع مجموعة من علماء الآثار في محافظة إدلب السورية على حماية متحف معرة النعمان، بعدما فجر صاروخ أطلقه النظام حفرة في جانب من المبنى. تاركا ما يقارب  2000 متر مربع من الفسيفساء في المتحف مفتوحة على مصراعيها للسارقين.

ويخشى علماء الآثار من تدمير كامل الفسيفساء في حال ضربت قنبلة أخرى المتحف. وقام أمناء المتاحف المحلية والناشطون بنقل العديد من القطع الثمينة في معرة النعمان إلى مكان آمن.

كما غطوا الفسيفساء داخل المتحف بطلاء كيميائي وأكياس من الرمل. وعندما تعرض المتحف للقصف مرة أخرى، امتصت أكياس الرمل أثر الضربة ونجت معظم القطع من الدمار.

أعمدة أفاميا عام 2011 (أعلاه)، وبعد اندلاع الحرب عام 2012 (أدناه). تصوير: Google Earth.

في السياق، قال أيمن نابو مدير مركز آثار إدلب، ويعمل مع العظم ضمن مبادرة حماية التراث، لسوريا على طول، في أيار الماضي”يبدو أنها استراتيجية ناجحة لأن الفسيفساء لا تزال على حالها”.

ووفقا لما يقوله العظم، فإن هذه المبادرات التي تتم على نطاق ضيق يمكن أن تقطع شوطا طويلا لحماية بعض من الكنوز الثقافية العظيمة في سوريا، و”إذا أعطيتنا خمسة آلاف دولار، سنؤمن حماية للمتحف ونوفر فرصا للتوظيف فيه لمدة 11 أسبوعا”، حيث أن حماية التحف أيضا، توفر فرص عمل لمن ينقبون عن الآثار.

وقال “عندما قدمت واحدا من مشاريعي، قلت لهم، بدلا من الخروج كل يوم مع جهاز الكشف عن المعادن، لماذا لا تأتون للعمل معي. سيكون الوضع أفضل، وستحصلون على مبلغ مماثل من المال”، مضيفا “ثم يأتون للعمل معنا (…) بالقليل يمكنك أن تفعل الكثير”.

لغز ذو قطع عديدة

يقول إدوارد بلانش، مدير الاتصالات في مكتب اليونسكو للعلوم والتربية والثقافة التابع للأمم المتحدة في باريس، أن معظم الآثار السورية المسروقة في نهاية المطاف، موجودة مع جامعي الآثار في أوروبا أو الخليج.

ويحظر قرار الأمم المتحدة الصادر عام 1970 تجارة الآثار والتحف غير المشروعة، وهناك حاليا حظر على تجارة التحف الفنية والآثار من سوريا والعراق، حسب ما يقوله بلانش. ويضيف “لكن عندما ترى حجم هذا العمل، وكيف أصبحت عدة آلاف من القطع الأثرية معروضة في السوق السوداء، ترى ان محاولة السيطرة على الوضع مهمة صعبة”.

وأضاف “إنها لغز محير ذو قطع عديدة”.

أبو طارق هو واحد من جامعي تلك القطع. ففي مقره في ريف إدلب الجنوبي الخاضع لسيطرة المعارضة، يشتري أبو طارق القطع التي يعثر عليها صيادو الآثار مثل عبد الرحمن.

اليوم، يحظر الائتلاف الحاكم لإدلب والمكون من جماعات إسلامية متشددة تجارة الآثار، ففي شهر آذار الماضي، تفاوض أعضاء من منظمة اليوم التالي مع المجموعة لوضع قوانين من أجل حماية المواقع الأثرية ضمن القانون المحلي للمعارضة.

وكانت النتيجة مرسوم رسمي، وهو ما يسميه العظم ممازحا بـ”الفتوى”، يستنكر نهب القطع الأثرية.

ومن غير الواضح ما إذا كان هذا القانون أو غيره من القوانين المماثلة هي في الواقع للحد من نهب المواقع الأثرية. وفي حين قال مسؤول في جيش الفتح لسوريا على طول، أنه تم إلقاء القبض على مجموعة من اللصوص في الآونة الأخيرة، قال قاض في جيش الفتح للصوت السوري الشهر الماضي أن تجارة الآثار مسموحة شريطة اقتطاع جزء من الأرباح تعطى للحكومة المحلية.

ويقول أبو طارق، سمسار الآثار، أن عمله لم يتأثر، موضحا “نحن نعمل مع تاجر في لبنان، ونهرب القطع الأثرية له عبر تركيا”. وأضاف “ومن لبنان، يتم بيعها للمتاحف وجامعي الآثار في أوروبا”.

من جهته، يقول بلانش، المتحدث باسم اليونسكو، أن مسألة تحديد جامعي الآثار في أوروبا هو أمر “صعب”.

وأضاف بلانش “نحن على اتصال مع بعض تجار الأعمال الفنية، ممن حددناهم كجامعين للآثار بشكل مستمر في أوروبا والشرق الأوسط، ونحن نحاول العمل معهم، ومع الاتحاد الدولي لتجارة الأعمال الفنية، ولكن العملية تستغرق وقتا”.

إن سلطة اليونسكو للحد من التجارة في السوق السوداء محدودة. وعلى الرغم من قرارات الأمم المتحدة التي تحظر تجارة الآثار في مناطق النزاع، يمكن للمنظمة زيادة الوعي فقط والتنسيق مع الحكومات وتعزيز القانون. وتقدم اليونسكو خارطة طريق لتنفيذ القوانين للحد من السوق السوداء، ولكن إذا كانت الدولة غير راغبة أو غير قادرة على فرض توصياتها، فليس بوسع المنظمة فعل الكثير بشأن ذلك.

“عليه دور يؤديه”

في أذار 2016، زار فريق من مراقبي اليونسكو عروس الصحراء السورية، تدمر، بعد أن استعادت قوات الحكومة السورية السيطرة عليها.

وبعد أن وقعت بيد تنظيم الدولة في الصيف الماضي، دمرتها الميليشيا تدميراً جزئياً، تم توثيقه. وتم تفجير العديد من المواقع التي كانت يوماً مقصدا للسياح من كل مكان، كمعبد بل الأثري أمام أعين الكاميرات من قبل ميليشيا تنظيم الدولة.

وكان من المقرر أن يعمل وفد اليونسكو مع الحكومة السورية على تقدير حجم الأضرار، وإجراء تقييم كامل لما بقي من الأثار. وفي أيار 2016 ذكرت المنظمة أن التقييم الشامل لحجم الدمار وحده، يتطلب جهودا مشتركة ومتضافرة من قبل جميع الأطراف.

وفي التقرير ذاته، التزمت إليونورا ميتروفانوفا، السفيرة الروسية لليونسكو، بالعمل “تحت إشراف وتنسيق اليونسكو” لحراسة وترميم تدمر، والتي تقع في الصحراء السورية الخاضعة لسيطرة الأسد، إلى الغرب تماماً من مناطق سيطرة تنظيم الدولة. (في يوم الخميس، شن عناصر تنظيم الدولة هجوماً في محاولة لغزو تدمر، وحتى إعداد المادة، ما تزال النتائج غير واضحة، إذ يدعي كل من النظام والتنظيم الانتصار).

وشهد ملف تدمر تنسيقاً دولياً على مستوى عالٍ مع النظام السوري، ولكن هذا لا يكفي وفق ما حذر العظم، “فعلى النظام أن يؤدي دوره في المناطق التي يسيطر عليها، ولكن نحو 70% من البلد خارج السيطرة”.

ولحماية أفاميا وصونها، وغيرها من المواقع القائمة في مناطق المعارضة، “فهذا أمر يقع على عاتق النشطاء المحليين والجهات غير الحكومية”، وفق ما حذر العظم، “وإلا فلن يبق منها شيء”.

ترجمة: سما محمد.

 

شارك هذا المقال