6 دقائق قراءة

“لا مفر من العقاب”: جرائم النظام السوري أمام محكمة العدل الدولية 

هولندا وكندا تقاضيان سوريا أمام أعلى محكمة أممية بسبب ممارسات التعذيب الممنهج، ومن المتوقع أن تصوِّت الجمعية العامة لللأمم المتحدة، في هذا الشهر، على تأسيس آلية للكشف عن مصير المختفين في سوريا.


15 يونيو 2023

أثينا- في 12 حزيران/ يونيو الحالي، أعلنت محكمة العدل الدولية أنَّ هولندا وكندا اتخذتا إجراءات ضد النظام السوري لانتهاكه اتفاقية مناهضة التعذيب. وتأتي هذه المبادرة بالتزامن مع الدفع غير المسبوق نحو التطبيع مع الأسد من قبل جيرانه، رغم مواصلة الجهود الدولية الرامية للمساءلة.

بهذه الدعوى تكون محكمة العدل الدولية، هي المحكمة الدولية الأولى التي تنظر في قضايا التعذيب بسوريا. حتى الآن كل القضايا الموجهة ضد مسؤولين سوريين بتهم ممارسات التعذيب وغيرها من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية رفعت في محاكم وطنية، وخصوصاً ألمانيا. 

في طلبهما المشترك المقدَّم إلى المحكمة، ذكر ممثلون كنديون وهولنديون أن ممارسات التعذيب “متفشية ومتجذرة بكامل هيكلية نظام الاعتقال في سوريا وما تزال مستمرة إلى اليوم”. 

كانت هذه الخطوة القانونية “لحظة سعيدة طال انتظارها” بالنسبة لأحمد حلمي، الذي اعتُقِل وعُذِّب في تسعة سجون سورية، بين عامي 2012 و2015. وفي ذلك، قال حلمي، وهو أحد مؤسسي مبادرة تعافي، منظمة يقودها الناجين والناجيات وتُعنى بمؤازرة ودعم المعتقلين السابقين: “بصفتي ناجٍ، لم يُخيل لي في ظل الوضع الراهن أن يراودني أي إحساس بالعدل، وأنَّ أولئك الذين عذبوني وقتلوا أصدقائي تحت التعذيب سيخضعون للمساءلة”. 

وأضاف في حديثه لـ”سوريا على طول”: “هذه فرصة للمحكمة الدولية لتُظهِر أنَّه لا مفر من العقاب”.

بدأت الدعوى المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية -الجهاز القضائي الرئيسي التابع للأمم المتحدة- بمبادرة من السلطات الهولندية في أيلول/ سبتمبر 2020، سعت لإخضاع النظام السوري للمساءلة، على خلفية انتهاك اتفاقية مناهضة التعذيب (CAT)، التي صادقت عليها دمشق في عام 2004، وانضمت كندا إلى المبادرة الهولندية في آذار/ مارس 2021.

بعد عامين من المفاوضات -بما في ذلك اجتماعين وجاهيين مع نظرائهما السوريين، عام 2022، في أبو ظبي، وتبادل 66 اتصالاً دبلوماسياً بهدف “وقف انتهاكات اتفاقية مناهضة التعذيب، والحصول على ضمانات عدم التكرار، وتقديم تعويضٍ كامل للضحايا”، رأت كندا وهولندا أنَّ العملية “عقيمة” ورفعت الدعوى.  

عملت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مع السلطات الهولندية والكندية لتقديم أدلةٍ تدعم الدعوى. قال فضل عبد الغني، مدير الشبكة، “نظام الأسد مسؤول عن تعذيب 15,039 مواطناً سورياً حتى الموت، من بيهم 190 طفلاً و94 امرأة”، معتبراً في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “هذه الخطوة القانونية، التي جاءت بعد زمن طويل، تعني الكثير لنا ولجميع أولئك الذين قُتِلوا تحت التعذيب”. 

تشير محاولة إخضاع السلطات السورية للمساءلة إلى أنَّ “الدول الديمقراطية ما تزال مهتمة في حماية حرية وحقوق الإنسان”، من وجهة نظر جمانة سيف، مستشارة قانونية في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR). كانت سيف على ثقة من أن وجود ملف التعذيب الممنهج في سوريا على طاولة “أعلى محكمة في العالم” من شأنه أن “يشجع الناس على التحدث علناً واستعادة الأمل بإحقاق العدالة”. 

لسنوات طويلة كان يصعب على سيف أن تجيب الناجين السوريين عن “لماذا لا يمكن لجميع هذه الدول القوية جداً أن تُوقِف الأسد أو تضغط عليه للإفراج عن المعتقلين والمفقودين”، كما قالت.

ورأى إبراهيم العلبي، محامي بريطاني من أصل سوري، قدم استشارة قانونية في الدعوى المرفوعة لمحكمة العدل الدولية، أنَّ تقديمها يُعتبر “إنجازاً تاريخياً في السعي لتحقيق العدالة في سوريا”، وفيه “إقرار قضائي دولي بالمعاناة والظلم الذي قاساه ملايين الضحايا والناجين من وحشية النظام السوري لزمنٍ طويل”. 

العنف الجنسي كأداة للتعذيب

حدّدت الإجراءات القانونية على وجه الخصوص استخدام العنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب، كأداةٍ للتعذيب من قبل الحكومة السورية والميليشيات التابعة لها. “كانت النساء والفتيات يُغتصبن بشكل روتيني، كما أن الصدمات الكهربائية وتشويه أو بتر الأعضاء التناسلية هي أيضاً من بين فنون التعذيب التي تُمارس على نحو دائم”، كما جاء في النص القانوني. 

من جهتها، رأت سيف، التي كانت عضواً في الفريق القانوني الاستشاري في محاكمة كوبلنز بألمانيا الخاصة بممارسات العنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي (الجنساني)، على أنَّها جرائم ضد الإنسانية، أنًّ إدراج هذا النوع من العنف ضمن إجراءات محكمة العدل الدولية هو أمر جوهري. 

“نملك في قرار محكمة كوبلنز دليلاً على ارتكاب العنف الجنسي والجنساني بشكل ممنهج وعلى نطاق واسع، وعلى استخدام أجساد النساء كسلاح حرب”، بحسب سيف، مشيرةً إلى أن استخدام العنف الجنسي، وبسبب ما يلحق به من وصمة عار “لا يدمر الناجي/ـة أو الضحية فحسب، وإنما يكون له أثراً عميقاً بعيد المدى على المستوى الاجتماعي، فهو أداة لتدمير وتفتيت المجتمع”.

التطبيع الإقليمي

تأتي خطوة التوجه إلى محكمة العدل الدولية بعد عدة أسابيع من الترحيب بعودة الأسد إلى جامعة الدول العربية وحضوره قمّتها المنعقدة في السعودية. تتمثل هواجس الدول العربية، التي تسعى لتعزيز العلاقات مع دمشق، في ملف اللاجئين بدول الجوار، وتجارة الكبتاغون، والنفوذ الإيراني، بغض النظر عن استمرار الاعتقال والتعذيب الممنهج في سوريا. 

ستُفضي الدعوى القضائية المحالة إلى محكمة العدل الدولية إلى “إصدار بيان واضح من كيانٍ قانوني محايد بأنَّ النظام السوري مجرم حرب، وأنَّ أي تطبيع معه سيكون تواطؤاً مع مرتكب الجريمة”، بحسب حلمي، داعياً الدول الإقليمية التي تؤطَّر التطبيع كخطوة باتجاه الحل السياسي في سوريا إلى استخدام إجراء محكمة العدل الدولية “كأداة لإجبار النظام السوري على تنفيذ الإجراءات الوقائية، التي ستوصي بها محكمة العدل الدولية، من قبيل إمكانية الوصول إلى مراكز الاحتجاز”.

وترى سيف، أنَّ هذه الخطوة القانونية أتت في “الوقت المناسب، إذ إنَّ غالبية السوريين الآن محبطون جداً بشأن التطبيع والخطوة التي اتخذتها جامعة الدول العربية بقبول الأسد مجدداً”.   

قيود محكمة العدل الدولية؟

تتولى محكمة العدل الدولية الفصل في النزاعات التي تنشأ بين الدول المرتبطة بانتهاكات اتفاقيات الأمم المتحدة، مثل اتفاقية مناهضة التعذيب، غير أنَّها لا تقاضي الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم بحق الإنسانية كما في حالة المحكمة الجنائية الدولية (ICC).

“من المهم معرفة أن محكمة العدل الدولية ليست محكمة جنائية، وأنّ أي حكم تصدره لن يُفضي إلى زج الجناة في السجون”، قال روجر لو فيليبس، المدير القانوني في “المركز السوري للعدالة والمساءلة” (SJAC)، مستأنفاً: “ومع ذلك، فإنّه يمنح المجتمع الدولي فرصةً لإدانة نُظم التعذيب التي تنتهجها الحكومة السورية”.

لسنوات، قُطع الطريق إلى العدالة في المحكمة الجنائية الدولية، لأن سوريا ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، المعاهدة التأسيسية للمحكمة. الطريقة الوحيدة ليكون للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على سوريا يتمثل بإحالة الملف السوري إليها من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو ما حالت روسيا والصين دونه باستخدامهما حق النقض (الفيتو) مراراً وتكراراً.

دفعت هذه القيود الجيوسياسية الناجين إلى التماس العدالة في محاكم أجنبية، يقع معظمها في دول أوروبية، وذلك بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية.

في طلبهما المقدَّم إلى محكمة العدل الدولية، طلبت السلطات الهولندية والكندية من المحكمة الإيعاز بالإجراءات المؤقتة، التي يتعين على الدولة السورية اتخاذها، بما في ذلك: وقف الاحتجاز التعسفي، والإفراج عن المعتقلين تعسفياً، والكشف عن مواقع دفن الذين لقوا حتفهم نتيجة التعذيب، وعدم إتلاف أي دليل يتعلق بالقضية. ولا يزال تنفيذ هذه الإجراءات موكلٌ إلى دمشق

سابقاً، ثبت صعوبة تنفيذ أحكام محكمة العدل الدولية. ففي عام 1986 طلبت المحكمة من الولايات المتحدة الأميركية أن تدفع لنيكاراغوا تعويضات حرب، لانتهاكها القانون الدولي بمساندة الميليشيات اليمينية التي واجهت حكومة البلاد، لكن أميركا رفضت الامتثال للحكم.

تصويت الأمم المتحدة التاريخي

بالتوازي مع دعوى محكمة العدل الدولية، تتقدم جهود الأمم المتحدة لإنشاء آلية دولية لكشف مصير وأماكن وجود أكثر من 100 ألف مختفٍ ومفقودٍ قسرياً في سوريا. ومن المتوقع أن يتم التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية حزيران/ يونيو، ويتطلب إقرارها تحقيق أغلبية بسيطة (50+1).

لطالما دافعت عشر جمعيات سورية، تجمعها مظلة “ميثاق الحقيقة والعدالة” عن الآلية الدولية، ودُعمت مطالبها بدراسات أجرتها لجنة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في سوريا (COI) والأمين العام.

“نأمل أن يكون قرار الجمعية العامة إيجابياً”، قالت لـ”سوريا على طول”، ياسمين مشعان، عضو مؤسس في رابطة عائلات قيصر، يوم الثلاثاء، من مكان وجودها في مدينة نيويورك، حيث سافرت إليها قبل التصويت، مضيفة: “سيكون قراراً إنسانياً، قراراً يتجاوز أي تسييس”.

فقدت مشعان خمسة من إخوتها في سوريا: قُتل أربعة منهم على يد النظام السوري، أُخفي اثنان قسرياً وعثرت على أحدهما ضمن الخمسين ألف صورة لمعتقلين قضوا في زنازين النظام، التي سرّبها ضابط عسكري منشق، لُقِّب باسم “قيصر”. فيما اختطف تنظيم “داعش” أحد أشقائها.

“نعمل من أجل حق العائلات بمعرفة الحقيقة. حق لا يمكن للدول إنكاره”، بحسب مشعان، مضيفة: “عار عليهم أن يصوتوا ضده”.

تقوم الآلية الدولية المُقترحة بجمع المعلومات الموجودة أصلاً، وإدراجها في قاعدة بيانات مركزية شاملة، من قبيل: شهادات المعتقلين السابقين قبل ضياعها.  

“حتى الآن، ليس هناك أي جهود تُذكر للبحث عن المفقودين في سوريا، وهذا الوضع يجب أن ينتهي”، قال حلمي، مضيفاً: “وجود تقارير ودراسات وافية، بما فيها دراسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، تشير إلى فعالية هذه الطريقة في الزود عن المختفين وإيجاد المفقودين في سوريا”. 

من جهتها، قالت هانا غريغ، مديرة برامج أولى في المركز السوري للعدالة والمساءلة، أنَّ إنشاء الآلية سيكون “خطوة تاريخية”، ولكنها قد تواجه بعض القيود، إذ “يمكن للآلية أن تضمن المصادر الكافية وتجعل عمليات البحث مركزية، بيّد أن العائق الرئيسي أمام تحديد هوية الأشخاص المفقودين في سوريا لا يزال يتمثل في الحكومة السورية”، وفقاً لها.

“إلى أن يتم الضغط على حكومة الأسد للإفراج عن المعتقلين، وإتاحة دخول المحققين إلى سوريا، بما في ذلك مراكز الاعتقال، سيظل التقدم محدود جداً”، بحسب غريغ.

وختمت سيف: “لا بد من التوضيح إلى أنها مجرد آلية إنسانية، لصون حق العائلات بمعرفة الحقيقة… وهذا حق أساسي”.

نُشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية سلام الأمين. 

شارك هذا المقال