9 دقائق قراءة

بذريعة “إزالة الأنقاض”: هدم مباني الحجر الأسود بدمشق والاتجار بركامها (صور جوية)

تواصل الآليات هدم الأبنية في مدينة الحجر الأسود، جنوب دمشق، من دون التفريق بين المباني التي تشكل خطراً على السلامة العامة والمباني غير المتضررة أو التي لا تشكل خطراً، في انتهاك صريح للملكيات العقارية في المنطقة.


19 أكتوبر 2023

دمشق- على بعد سبعة كيلومترات جنوب العاصمة دمشق، تواصل آليات شركات المقاولات هدم الأبنية في مدينة الحجر الأسود، منذ نحو شهرين، من دون التفريق بين المباني التي تشكل خطراً على السلامة العامة، بحسب تقييم لجنة السلامة الإنشائية التابعة لمديرية الخدمات الفنية في محافظة ريف دمشق، والمباني غير المتضررة أو غير المصنفة على أنها تشكل خطراً، في انتهاك صريح للملكيات العقارية في المنطقة، تحت غطاء “إزالة الأنقاض”.

ما يحدث “تكسير المنازل وسحب الحديد منها”، كما قال عباس الشامي (اسم مستعار)، 45 عاماً، من أهالي الحجر الأسود، لافتاً في حديثه لـ”سوريا على طول”، إلى أن “الهدم يطال المنازل السليمة في وضح النهار”.

يسكن الشامي في منزل مستأجر بحي التضامن، جنوب دمشق، على بعد أقل من ثلاثة كيلومترات عن منزله في الحجر الأسود، وعائلته واحدة من أصل 37 ألف عائلة، كانت ترغب في العودة إلى الحجر الأسود عام 2019 بحسب تصريح رئيس بلديتها لجريدة الوطن، لكنه لم يتمكن من العودة حتى الآن.

في آذار/ مارس 2023، تم الموافقة على 2700 طلب عودة إلى الحجر الأسود، من أصل 3100 طلب، بحسب رئيس البلدية، لكن لم يعد سوى ألف شخص، أي نحو 200 عائلة، بحسب موقع “سوريا ريبورت”.

استعاد النظام السوري سيطرته على الحجر الأسود ومخيم اليرموك، في أيار/ مايو 2018، بعد اتفاق يقضي بنقل عناصر تنظيم داعش، التي كانت كانت تسيطر على المنطقة،  إلى البادية السورية. وتتألف مدينة الحجر الأسود من عدة أحياء: الثورة، تشرين، الجزيرة، الوحدة، والاستقلال، وجزءاً من شارع الثلاثين المشترك مع مخيم اليرموك، كان يسكنها حوالي 400 ألف نسمة قبل عام 2011.

وكما هو حال مخيم اليرموك، شهدت المدينة عمليات تعفيش للمنازل وسرقة أنقاض المباني المدمرة فيها، كما قال الشامي، مؤكداً أن “عمليات الهدم والسلب لم تتوقف منذ عام 2019 حتى الآن”. مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، نشرت في أكثر من تقرير عن تعرض مدينة الحجر الأسود، التي يقطنها “آلاف الفلسطينيين”، لعمليات “نهب وسرقة طالت الأثاث المنزلي والرخام والبلاط، إضافة للقضبان الحديدية من المباني المدمرة”.

صورتان جويتان لمدينة الحجر الأسود بريف دمشق، توضحان زيادة عدد المباني المدمرة عام 2023 مقارنة بعام 2018 بعد سيطرة قوات النظام عليها – مصدر الصور (سوريا على طول، Google Earth ،SkyFi، Open Street Map، Mapbox)

سلب ومنع عودة

في مطلع عام 2023، سمحت محافظة ريف دمشق عودة سكان حييّ الوحدة والاستقلال، مقابل منعها سكان حي الجزيرة وجزءاً من شارع الثلاثين من العودة، بذريعة دمار أغلب المنازل، لكن الواقع أن المنطقة تتعرض لعمليات هدم عشوائي، كما أكد عدد من سكان الحجر الأسود في حديثهم “سوريا على طول”، بما في ذلك الأحياء التي سُمح لأهلها العودة إليها.

قبل عام ونصف، حصل عباس الشامي على موافقة من بلدية الحجر الأسود لـ”تنظيف منزلي في حي الثورة وإصلاحه”، لافتاً إلى أنه دفع 50 ألف ليرة سورية للبلدية، وهو “رسم الكشف على المنزل”. بعد أن انتهى من تنظيف منزله وإجراء الإصلاحات الضرورية قرر السكن فيه، لكن عندما نقل الأثاث وجد منزله “من دون أبواب ونوافذ، وحتى سقفه تم هدمه”، بحسب قوله.

“يسرقون بيوتنا أمام أعيننا وكأنه لا توجد دولة”، قال الشامي باستنكار، مؤكداً أن المتورطين في السرقة “أناس مدعومون، وشاحنات الحديد التي تخرج من البلدة لا يعترضها أحد رغم انتشار حواجز الجيش السوري في محيط المنطقة”.

تعليقاً على ذلك، قال المستشار القانوني، د.غالب عنيز، المقيم في دمشق، إن “هناك أياد تلعب في الخفاء”، من دون توجيه الاتهام لجهة بذاتها، وطالب في حديثه لـ”سوريا على طول” السماح لجميع أهالي الحجر الأسود بـ”العودة وترميم منازلهم بعد الكشف الفني عنها كما حصل في مدينة داريا”.

ورشات تجارة أنقاض 

كان حلم الشامي انتهاء الحرب من أجل العودة إلى منزله، لكن لسان حاله اليوم “ليتها لم تنته”، لأن منزله ظل صامداً رغم العمليات العسكرية التي شهدتها المنطقة، إلى أن “بدأت عمليات الهدم للمنازل غير المتضررة من دون اكتراث لأي مساءلة”.

حالياً، يعد حي الجزيرة في الحجر الأسود من أكثر الأحياء التي تتعرض للهدم، بحسب الشامي، قائلاً: “في حال استمر الهدم على هذا المنوال لمدة شهر واحد سيكون حي الجزيرة كاملاً على الأرض مدمراً”، مقدراً “خروج عشرة سيارات يومياً من الحي، محملة بالحديد ومواد قابلة للتدوير، ويتم نقلها إلى معمل حديد حمشو في منطقة عدرا الصناعية”، بحسب زعمه. يٌتهم محمد صابر حمشو بأنه “أبرز المتعاملين بتجارة الخردة” مع الفرقة الرابعة، المتورطة في عمليات نهب أنقاض الأبنية المدمرة. 

تأكيداً على ذلك، قال مصدران من الحجر الأسود، في حديثهما لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم ذكر اسمها لدواع أمنية، أن متعهدي إزالة الأنقاض يعملون بالتعاون مع الفرقة الرابعة، التي تسيطر على تجارة الأنقاض وسحب الحديد منها، ليصار إلى بيعها لرجل رجل الأعمال حمشو، الذي يعيد تدويرها.

من جانبه، اتهم المرصد السوري لحقوق الإنسان، في تقرير نشره في تموز/ يوليو الماضي، عناصر تابعين لـ”ميليشيا الدفاع الوطني”، بـ”هدم المباني والمنازل المدمرة وبعض المباني غير المدمرة” في الحجر الأسود.

صورتان جويتان لشمال مدينة الحجر الأسود بريف دمشق، ثوضحان أن عملية هدم المباني مستمرة، إذ تشير الصورة المأخوذة يوم 29 أيلول/سبتمبر 2023 إلى زيادة عدد المباني المدمرة مقارنة بالصورة المأخوذة في 7 أيلول/سبتمبر 2022 – مصدر الصور (سوريا على طول، Google Earth ،SkyFi)

صار هدم المنازل وسلبها في المناطق التي استعاد النظام سيطرته عليها عملاً منظماً، ولأجل ذلك وُجدت “عقود انتساب” لصالح أجهزة النظام الأمنية والعسكرية في عدة مناطق، وبحسب المعلنين عن هذه العقود، يحصل المنتسبون على مبالغ إضافية لقاء العمل في عمليات هدم المنازل.

اقرأ: “كالجراد”: “قوات الهدم” ومجموعات تابعة للنظام السوري تنهب منازل المهجرين (صور)

منع واعتداء بهدف التنظيم؟ 

ذهب سعيد محمد (اسم مستعار)، 55 عاماً، إلى أبعد من مشكلة تدمير المنازل والاتجار بأنقاضها، معتبراً أن “الحكومة لا تريد عودة السكان إلى منازلهم، وبإطلاق يد متعهدي إزالة الأنقاض من جهة، وعدم إعادة تأهيل الخدمات في الحجر الأسود البلدة، تحقق هدفها”.

في عام 2021، حصل محمد على موافقة ترميم شقته، الواقعة في حي تشرين بمدينة الحجر الأسود، “وبعد شهر من الحصول على الموافقة فوجئت بهدم درج البناء المؤدي إلى شقتي في الطابق الثالث”، كما قال لـ”سوريا على طول”. وكأنها “رسالة ضمنية مفادها أن العودة ممنوعة”.

رداً على شكاوى أهالي الحجر الأسد من هدم المنازل عشوائياً، بما في ذلك أبنية هُدمت رغم عدم وجود إشارة الإزالة عليها، قال رئيس بلدية الحجر الأسود، خالد خميس، لموقع “أثر المحلي”، أنه “يتم الكشف على المنازل بوساطة مهندسين متخصصين من لجنة السلامة العامة لمديرية الخدمات الفنية التابعة لمحافظة ريف دمشق، واللجنة تتخذ القرار بإزالة أو ترميم البناء حسب معطيات محددة”.

ومع تأكيده أن النقارات (آليات الهدم) تابعة للجنة السلامة العامة، ومهمتها إزالة الأبنية الآيلة للسقوط، التي تم دراستها من اللجنة، نفى أن يكون للبلدية علاقة بالسرقات، وأن متابعة هذا الملف “من الأمن وليس من البلدية”، على حد قوله.

على هامش انتهاكات الملكية العقارية في عدة مناطق أعادت حكومة دمشق السيطرة عليها، يتخوف المهجرون من مناطقهم، لا سيما التي تضم مساكن عشوائية، من شرعنة الاعتداء على ملكياتهم، تحت غطاء بعض القوانين الصادرة، من قبيل القانون رقم 10 لعام 2018، الذي يتيح إعلان الحجر الأسود منطقة تنظيمية جديدة بذريعة معالجة مشكلة العشوائيات، و”تحويل الملكية العقارية المترية إلى ملكية عقارية سهمية فقط من دون أي حق بالتعويض لمن ضاعت وثائق ملكيته”، كما قال المحامي منهل الخالد، الخبير في الملكية العقارية لـ”سوريا على طول”.

يزيد مخاوف المدنيين أن “النظام ترك للسلط التنفيذية حرية اختيار القانون الذي تريد تطبيقه من منظومة القوانين العقارية المتداخلة وغير الواضحة”، بحسب الخالد، وبالتالي “لا أحد يستطيع التكهن بالقانون الذي سيطبق عند إحداث منطقة تنظيمية، ولا المرجعية التي ستشرف عليها”.

في عام 2021، بدأت محافظة ريف دمشق بالتنسيق مع شركة الدراسات الهندسية التابعة لوزارة الأشغال في إعداد مخططات تنظيمية تفصيلية جديدة لعدد من المناطق المنظمة المحاطة بسكن عشوائي غير سليم من الناحية الإنشائية والعمرانية، ومنها الحجر الأسود، وفقاً لما نشرته وكالة الأنباء الرسمية (سانا). 

وفي شباط/ فبراير 2022، قال مدير دعم القرار والتخطيط الإقليمي في محافظة ريف دمشق، عبد الرزاق ضميرية، أنه “تمت المباشرة بإعداد الدراسة اللازمة لمدينة الحجر الأسود، وتسليم المرحلة الأولى على أن يتم استلام المخطط التنظيمي الكامل للمدينة نهاية شهر حزيران، والبنى التحتية ستكون جاهزة اعتباراً من شهر تموز المقبل”، مشيراً إلى أن عمليات ترحيل الردميات تمت بنسبة 75%.

من جانبه، نشر “تجمع أهالي الحجر الأسود المهجرين” على صفحته في فيسبوك، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، تحديثاً عن المدينة، قال فيه أن “نصف أو أغلب منطقة الجزيرة” تم إزالتها “ضمن التنظيم”، فيما لم تعلن حكومة دمشق أو مجلس بلدية الحجر الأسود عن صدور المخطط للمدينة أو إجراء عمليات هدم استناداً إلى مخططات تنظيمية. 

تعليقاً على ذلك، قال مصدر من مجلس محافظة ريف دمشق، أنه “لم يصدر حتى اليوم أي مخطط تنظيمي للحجر الأسود”، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن اسمه، أن “القانون الناظم لمخطط الحجر الأسود هو المرسوم 5 لعام 1982” المعروف باسم “قانون التخطيط العمراني“، والذي تم تعديله بموجب القانون 41 لعام 2002.

يتيح هذا القانون لمحافظة لمجلس المحافظة استغلال التفويض الممنوح لها بموجبه، وتحديد المناطق التي تراها بحاجة إلى عادة إعمار أو توسعة، ويمنحها صلاحية وضع مخططات تنظيمية لتلك المناطق، وهو ما يعطيها “سلطة واسعة في اختيار الزمان المناسب والأماكن التي تريد تنظيمها دون الأخذ بالحسبان أي من مصالح أصحاب الممتلكات أو السياقات الأخرى كالنزاع أو النزوح أو اللجوء”.

تعليقاً على ذلك، قال المحامي منهل الخالد، “إن الاستناد على القانون رقم 5 لعام 1982، قد يفضي إلى الاستيلاء على عقارات قسم من المالكين، كون هذا القانون يمنح السلطة التنفيذية إمكانية إنشاء وتوسيع الطرق وإشادة مدارس وحدائق وغيرها”، كما أنه “يحرم المتضررين من اللجوء إلى القضاء، لأن القانون ينزع عن القضاء هذه الصلاحية ويسندها للجنة فنية تشكل برئاسة المحافظ وعضوية عدد من مرؤوسيه”.

وكان الأولى بمحافظة دمشق “تنفيذ القانون رقم 3 لعام 2018، رغم سلبياته الكثيرة، إلا أنه القانون الخاص بإزالة أنقاض الأبنية المتضررة لأسباب طبيعية أو غير طبيعية”، كما أوضح الخالد لـ”سوريا على طول”، ناهيك عن أن هذا القانون “يحل مشكلة عدم وجود كافة المالكين”، على عكس القانون رقم 5، الذي يكون التبليغ بموجبه “إما شخصياً أو عبر وسائل الإعلام، في وقت أغلب سكان الحجر أصبحوا في عداد النازحين واللاجئين، ما يعني صعوبة الوصول إليهم”.

“توسعت مدينة الحجر الأسود أضعاف حجمها المحدد بالمخطط التنظيمي لعام 1987″، كما قال المستشار القانوني غالب عنيز، معتبراً أن “ترك المخالفات (العشوائيات) تنمو فاقم المشكلة، والحل يبدأ بتنظيم المدينة وتعويض سكانها المتضررين بمساكن بديلة”.

إذا كانت حكومة دمشق غير جادة بإعادة أهالي الحجر الأسود إلى منازلهم، يتعين عليها -على أقل تقدير- أن “تحافظ على ما تبقى من أملاكنا، وتضع حداً لهدم المنازل وسرقتها”.

شارك هذا المقال